بأمر الرئيس، القضاء تحت الوصاية!
يظهر أن كثيرا من المهتمين بالشأن القضائي أو حتى من الفاعلين في المنظومة القضائية وبالأحرى عموم المتقاضين وسائر الناس لم ينتبهوا إلى أن تركيز رئيس الجمهورية على تعطيل سير الحكومة ومجلس نواب الشعب وانفراده بالحكم دون رقابة يخفي منهجا مختلفا (في أدواته) إزاء السلطة القضائية المفترضة. فهو لم يقدم بصفة مباشرة على تعليق صلاحيات المجلس الأعلى للقضاء أو الحد من اختصاصات المحاكم أو الحلول محل القضاة في الحكم أو تكوين هيئات إدارية تحت إشرافه تستوعب سلطات الهيئات القضائية بل اتجه (ولو أن الأمر لا يزال في بداياته) إلى محاولة وضع القضاء -ممثلا في مؤسساته وأشخاصه- تحت وصايته وسيطرته المباشرة.
ومن البديهي أن يجد القضاء نفسه معزولا في سياق “بيئة استثنائية” تخلو من مقومات دولة القانون وأساسا من وجود حقيقي لسلطات الدولة والفصل بينها.
ولا شك أن المخضرمين من القضاة الذين عاشوا مرحلة “تدجين القضاء” وترويضه هم أكثر من يدرك أسلوب الإدارة في “ابتزازهم” أو “ترويعهم” أو “ترغيبهم” أو “ترهيبهم” مما أثر على سمعة القضاء وأدائه على امتداد العقود الماضية.
وان ما نخشاه (ولا نرضاه لأنفسنا كتونسيين) قد عبرت عنه جمعية القضاة في بلاغها الأخير (بتاريخ 4 أوت 2021) بقولها “إن تطبيق إجراءات حالة الطوارئ على القضاة في تجاوز لصلاحيات المجلس الأعلى للقضاء الضامن لموجبات استقلالهم والقائم بمسؤولية محاسبتهم من شأنه أن يشيع أجواء الخوف والترهيب في صفوف كل أعضاء السلطة القضائية بما يؤثر سلبا على استقلالهم وحيادهم في حماية الحقوق والحريات في ظل سريان التدابير الاستثنائية”.
ومن الواضح أن التمشي الذي يتبناه رئيس الجمهورية في مواجهة القضاء قد ظهر في عدد من الإجراءات والمعاملات التي تستهدف “تطويقه” والحد من سلطاته، من ذلك :
- التوجه إلى تفضيل (أو حتى استعمال) القضاء العسكري في تتبع المدنيين على حساب القضاء المدني.
- إعلان رئيس الجمهورية رئيسا للنيابة العمومية رغم أن الدستور يقتضي التخلي عن تبعية النيابة للسلطة التنفيذية وتمتعها بالضمانات المكفولة للقضاة الجالسين. وفضلا عن ذلك يبدو أن رئيس الجمهورية لا يعتبر قضاء النيابة من صنف القضاء العادي المستقل طبق ما نقل عنه.
- وضع قاضيين مباشرين تحت الإقامة الجبرية بموجب قرارين من وزير الداخلية وتطبيقا لأحكام الأمر المؤرخ في 26 جانفي 1978 المناقض للدستور. ولا يخفى ما في ذلك من امتهان للقضاء زيادة على عدم توفر موجبات تلك العقوبة.
- إدراج عدد من القضاة والقاضيات في قوائم الممنوعين من السفر (إضافة إلى بعض المحامين) دون أسباب معلنة أو معلومة وفي غياب أية تتبعات أو إجراءات ضدهم أو أخطاء منسوبة لهم مع احتفاظهم بالحصانة القضائية!.
- التعدي على صلاحيات المجلس الأعلى للقضاء وذلك بتسليط عقوبات إدارية (كالإقامة الجبرية) على منظوريه الخاضعين لإجراءات تأديبية وتقييد حق القضاة في التنقل دون علم المجلس أو إفادته بموجبات ذلك التقييد.
و لعل الأجواء التي تشيعها الأحكام الاستثنائية و”القوة المهيمنة” للرئيس كانت سببا إلى حد الآن في امتناع المجلس الأعلى للقضاء عن إبداء رأيه في التدابير الاستثنائية (عدا ما يتعلق برئاسة النيابة العمومية) والتعبير عن رفضه للقيود المفروضة على القضاة في حريتهم وتنقلهم!