أبو يعرب المرزوقي
عندما عرفت وظائف الدولة من حيث هي كيان مجرد قبل أن يتعين في قيمين عليه من الشخصيات الطبيعية التي تجسدها بوصفها ذات شخصيات معنوية -وهو مفهوم يعسر شرحه للكثير ممن يتعلطون على الفلسفة السياسة وخاصة ممن صاروا سلطة معرفية في الكلام على الدولة وجودا وإمكانا- وضعت مفهومين يمثلان غاية جنسي وظائفها التي تنقسم إلى خمسة للرعاية وخمسة للحماية.
فقد اعتبرت الجنس الأول من وظائف الدولة للرعاية ولها خمسة أنواع:
نوعان للتكوين :
- التربية النظامية وهي لتكوين اجيال الجماعة التي تعتبر الدولة صورة نظام كيانها كله وليس السياسي فحسب.
- التربية اللانظامية وهي مشاركة الأجيال في تقسيم العمل بعد تكونها في انتاج البضائع والخدمات التي تعول الجماعة.
ونوعان للتموين: - الإنتاج الرمزي لسد الحاجات الروحية العلمية والعملية أي المعرفة والقيم التي من دونها لا يمكن تحقيق شروط الرعاية الروحية للجماعة ما تقدم في التربيتين.
- الانتاج المادي لسد الحاجات العضوية التي تقتضي ما تقدم في الانتاج الرمزي لأن كل انتاج مادي شرطه أن يكون عملا على علم سابق إذ من دونه يكون خبط عشواء ولا يعمر بل يدمر.
وشرط الشروط وأصل الأنواع الاربعة: - والعامل الأخير المشروط فيها جميعا هو البحث والإعلام العلميان: فمن دونهما لا يمكن أن أربي تربية نظامية وتربية اجتماعية وأن انتج ما يسد الحاجة الروحية وما يسد الحاجة المادية. فيكون الأمر متعلقا بالاستعلام تحصيلا للشروط والإعلام تمكينا للجماعة من الحصيلة وما تثمره.
وهذا هو النوع الخامس في الرعاية. وهو النوع الاول من الإعلام التابع للاستعلام في البحث العلمي الذي من دونه تكون الجماعة ضاربة في البداوة برعايتها وحمايتها. فتعيش كما يعيش العرب حاليا على استيراد كل شيء يحتاجونه فيهما دون أن يكون ما يستوردونه مناسبا لحاجتهم في تلك الوظائف.
وطبعا فحتى البدو لهم بعض الخبرة في تحصيل ما يحتاجون إليه مثل رعي الأبل وجني ما تنتجه الطبيعة والطب الرعواني والخرافات التي يسهرون عليها مثل الفنون العربية الحالية التي تناسب من يلعب الخربقة ولا يفهم شيئا من أسرار الطبيعة والتاريخ بل هو ريشة تتلاعب به الأهواء والادواء.
ومثلما أن للجنس الاول المتعلق بالرعاية وأنواعه الخمسة اعلاما متضايفا مع الاستعلام الذي هو أصل أنواعه كلها أعني البحث العلمي لإنتاج شروط الوجود المادي والروحي للجماعة فإن للجنس الثاني المتعلق بالحماية وأنواعه الخمسة كذلك اعلاما متضايفا مع الاستعلام الخاص بها.
لكنه ليس مقصورا على الرعاية وحدها بل هو يشمل الحماية كذلك: إنه الاستعلام والإعلام الضروريان للحماية يحتاجان إلى البحث والإعلام العلميين عامة وإلى فرع منه يختص في الاستعلام والإعلام السياسي. وينقسم هذا الجنس الثاني من الوظائف كما أسلفت خمسة أنواع:
النوعان الاولان للحماية الداخلية أي:
- القضاء
- والأمن
النوعان الثانيان للحماية الخارجية أي: - الدبلوماسية
- الدفاع
والنوع الخامس أصل لما تقدم عليه وهو الاستعلام والإعلام السياسي الذي هو بحث علمي خاص بحماية وجود الجماعة وحماية شروط رعايتها ومن ثم فهو لا يقل عن البحث والإعلام العلمي العام أساسيه ومطبقه.
فهما متخادمان إذ إن كليهما يخدم الثاني لأنه من دون ما تحققه الرعاية يستحيل الانفاق على الحماية ومن دون ما تحققه الحماية يستحيل المحافظة على ما تنتجه الرعاية إذ يذهب إلى القادرين على أخذه عنوة سواء كانوا مافية داخلية أو مافية خارجية أو كليهما معا.
آتي الآن إلى مسألة الإعلام في الحالتين لاحدد طبيعته وأفق إصلاحه. وأبدأ بالقول أولا إن البحث والإعلام العلميين الخالصين لا وجود لهما أصلا عند العرب ومن ثم فلا خوف عليهما من المافيات التي تسرق ثمرتهما.
فمن الحمق تصديق تخريف عبد المجيد الشرفي عندما يدعي أن بقية النخب العربية -ويعني المشرقية وبالذات من اشتروا عناوينهم الاكاديمية من النخبة العملاقة في جامعات العالم ومنها جامعات تونس- تعتبره هو ومافيته قاطرة الحداثة العربية: صحيح إذا كان القصد حدوثة الحداثة. لكنه وهم دال على الحمق والتضخم المرضي.
فلن تجد مافيات صينية تتجسس على جامعاتنا أو على مصانعنا لتستطيع منافستنا في شيء من العلم أو من تطبيقاته التكنولوجية في الإنتاج الاقتصادي أو الدفاعي. وإذن فكلامي لن يتعلق بهذا المجال الأول من الاستعلام والإعلام.
وإذن فكلامي يقتصر على النوع الثاني من الاستعلام والاعلام المتعلقين بالحماية ببعديها الداخلي (القضاء والأمن) والخارجي (الدبلوماسي والدفاعي). وهذا هو مكمن الداء في بلاد العرب المستباحة بسبب هذين الوظيفتين بالذات.
ويوجد مستويان للقضية: الأول هو أن الاستعلام والإعلام السياسي يمكن أن يكون خطرا بكونه عاجزا تقنيا. والثاني هو أنه يمكن أن يكون فاسدا خلقيا. وهما المرضان اللذان تعاني منها الاستعلامات العربية كلها دون تمييز بين الاقطار العربية.
- فالعجز التقني يجعلها نهبة لمن هم أقدر منهم على الخداع الاستعلامي بحيث يمكن أن يمرر الأعداء الاختراق تحت مسمى التعاون.
- والفساد الخلقي يجعلها نهبة للخيانة من أجل التربح والارتزاق لدى الاعداء للحصول على معلومات أمنية تخص الحماية والرعاية ليس من حيث الابداع التقني بل من حيث الثروات الطبيعية.
ولما كانت الحماية الداخلية شرط الحقوق التي من دونه يصدق قول ابن خلدون في أن الظلم مؤذن بخراب العمران: بمعنى الظلم في القانون المدني والقانون الجنائي وبمعنى القانون العام الإداري والدستوري في علاقة المواطن بالدولة. وهو مجال الحقوق بالمعنى السياسية والمدنية والثقافية للمواطن-حقوق الإنسان-فإن الاستعلام والإعلام السياسي يصبحان سلاحا على المواطن لا له.
ولما كان الاستعلام والاعلام السياسيان مخترقين كما بينا فإنه يصبح في خدمة أعداء الجماعة وليس في خدمتها. وهو إذن لا يحميها بل يحمي اعداءها وبصورة أدق هو في خدمة أعدائها الداخليين والخارجييين سواء منفصلين أو محتمعين.
وهذا هو الداء الدوي الذي يفهمنا هشاشة الانظمة العربية كلها: ستائرها غربال ثقوبه شديدة الاتساع فلا يستر شيئا من أسرارها. فحتى حكامها جواسيس عليها. وعندنا مثلا نحن المرازيق الذين استقروا في ريف بنزرت: “الشكوة لم يعد بالوسع سد ثغراتها بالزرار فصارت لا تحفظ ما نريد مخضه”.
ولما كانت المخابرات أو الاستعلام والاعلام السياسيين أداة دفاع على الذات فهي حتما أداة حرب على غيرها في مستوى الحماية الخارجية أي الدبلوماسية والدفاعية فإنها تتحول بسبب العجز التقني والفساد الخلقي إلى العكس.
فهي تصبح أداة دفاع عن الأعداء وحرب على الذات. تلك هي معضلة اصلاح الاعلام في بلاد العرب: ذلك أن الإعلام هو الذي يجعل الاستعلام قابل لهذين التوظيفين في مغالطة الجماعة والحرب النفسية عليها لصالح أعدائها.
فهل يمكن الآن علاج هذه الامراض؟ يمكن أن يطمع الإنسان تحقيق نتيجة مقبولة في تدارك العجز التقني إذا وجدت نخبة سياسية صالحة لها مشروع حقيقي للرعاية والحماية اللتين وصفت لكن المشكل الأعسر هو الوصول إلى نتيجة في تدارك الفساد الخلقي: فهو أعسر من تربيع الدائرة.
فلا بد من إصلاح ما سيمته “نظام الانتخاب” ليس بمعنى الانتخابات السياسية لتعيين ممثلي الشعب بل بمعنى أفلاطوني يحدد به دور التربية ومدى خطورتها وهي على خلاف ما يجري عند العرب عامة وعند المستلبين منهم والخاضعين لإرادة الأعداء في تربية أجيالهم علة كل الأمراض الجرثومية والفيروسية التي تهدد كيان الجماعة العضوي والروحي وشروطهما.
فأفلاطون كان يعتبر وزارة التربية أهم من رئاسة الدولة لانها هي التي تنتجب في كل هذه المستويات تكوينا بنوعيه وتموينا بنوعيه واستعلاما واعلاما علميين في الرعاية وهي التي بذلك تجعل الانتخاب في القضاء وفي الأمن وفي الدبلوماسية وفي الدفاع وفي الاستعلام والاعلام السياسيين تكون في خدمة الجماعة من حيث جودة الكفاءة التقنية ورفعة الاستقامة الخلقية.
ومنذ استقلت تونس إلى اليوم لم يوزر واحد ممن توالوا على التربية له ولو جزئيا معرفة بنظريات التربية وشروط الانتخاب الذي يعين القيم المناسب في المكان المناسب سواء كان ذكرا أو انثى وخاصة الانثى التي غالبا ما يكون تعيينها بين العرب معياره لا علاقة له بالكفاءة التقنية ولا بالجدارة الخلقية بل بما يعلمه الجميع فضلا عن الوساطة والزلمية للذكور.
ولما كان تحقيق رؤية أفلاطون والقرآن (النساء 58 إذ كل عمل المعين فيه حكم) في الانتخاب في النظام التربوي وما يترتب عليه في الدور الذي يؤديه المتخرج في نظام تقسيم العلم شبه مستحيل حاليا في أي بلد من بلاد العرب وليس في تونس وحدها.
فإني لا أستطيع إلا أن أرفع يدي بالتذرع طلبا لمعجزة نتغلب بها على هذه الجوائح التي تعتبر كورونا بالقياس إليها لعب أطفال. وغاية قولي: الله غالب: فليس صحيح دائما أن التشخيص الصحيح يمكن أن ييسر اكتشاف الدواء. فتشخيصي يبدو قد عسره خاصة والعلاج بحل “تأليف القلوب” مستحيل لأن المفسدين يدفعون أكثر.
فالإعلام العربي أخطر من كورونا ليس على الارواح أي الوعي الفردي والجمعي وحدهما بل على الأبدان لأنه مؤثر على نظام الانتخاب في التكوين والتموين وفي الحماية الداخلية وفي الحماية الخارجية وفي شرطي الشروط بحثا علميا لتحقيق شروط قيام الجماعة وبقائها وبحثا استعلاميا في شروط حماية الجماعة ومناعتها.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.