نور الدين الغيلوفي
لك أن تقول في راشد الغنوشي ما تشاء، فهو كغيره من الشخصيات العامّة التي تتصدّى للشأن العام، ليس على رأسه ريشة ولا بيده صولجان.. راشد الغنّوشي مسؤول سياسيّ وجميع المسؤولين السياسيين بلا استثناء وجب وضعهم تحت مجهر المساءلة.. وللمطالبين بمساءلته أن يسائلوه عن حياته كلها وألّا يكتفوا براهنها.. بل لهم أن يجلدوه متى استحقّ جلدهم…

ولكن ليس من المعقول أن تكون المطالبة بمساءلة الرجل مجرّد استجابات لمثيرات خارجية تعود إلى دول عربية تحكمها أنظمة دكتاتورية يأتمر بأمرها إعلام وظيفيّ يهاجم من شاءت مهاجمته ويكفّ عمّن تقرّر الكفّ عنه…
لم ينطلق الهجوم على الغنوشي إلّا بعد أن قالت فيه إعلامية لبنانية تقيم في أبو ظبي ما قالت، وبعدما كتبت فيه صحيفة الشرق الأوسط التابعة للنظام السعوديّ ما كتبت، وبعدما غرّد فيه طبّال العسكر المصريّ الشهير مصطفى بكري ما غرّد…
ولا يخفى أنّ تلك السلسلة ما حُرّكت لتدور حول الغنّوشي إلّا بعد الهزيمة التي مُني بها المشير المتقاعد خليفة بن بلقاسم حفتر في ليبيا وفشل المخطّط الإماراتي الفرنسي المصريّ الذي كانت الدول المجتمعة حوله، على اختلافها، تخطّط لبسط نفوذها على ليبيا للإجهاز من بعدها على التجربة التونسية التي لم يتورّع إعلاميّ سعودي عن نعتها بالجمرة الخبيثة…
التجربة التونسية لا تزال تؤرّق دوائر القرار في الدولة الفرنسية التي لا تريد أن ترى في تونس سوى ولاية تابعة لها لا ينبغي أن تجريَ الأمور فيها إلّا تحت رقابتها وبأمرها.
ولا تزال تزعج حكّام السعودية لأنّها تظلّ، ما دامت معافاة، تغذّي دعاة الإصلاح في المملكة بالأمل في إمكان إصلاح دولتهم كما فعل التونسيون من قبلهم…
ولا تزال تؤرّق النظام المصري لأنّه يعلم علم اليقين أنّ الانقلاب لن ينجح في أن يكون أمرا واقعا ما لم تنطفىء جذوة الديمقراطية في تونس…
أما نظام أبي ظبي فهو، إلى جانب انسجام موقفه مع النظامين السعودي والمصري، يلعب دور الوكيل للدولة العبرية التي يبدو أنّ اختراقها للأمّة قد نجح إلى حدّ كبير بعد أن صارت أنظمة الدول الثلاث في صفّها…
ألم تر كيف أنّ دولة الإمارات تهدّد الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، الذي أعلنت سلطته إيقاف التنسيق الأمني مع السلطات الصهيونية، بإسقاطه وإحلال محمّد دحلان محلّة في قيادة السلطة في رام الله؟
في هذا السياق الإقليميّ العام تأتي الحملة على راشد الغنّوشي، لا باعتباره زعيم الإخوان كما يبدو للبعض، ولا بعدّه ممثّلا للإسلام السياسيّ الذي تخاصمه أنظمة الحكم لأنّها ترى فيه نقيضا جذريّا لحكمها الاستبدادي قادرا على سحب بساط الشرعية من تحتها…
إنّما تُشنّ الحملة على راشد الغنّوشي لأنّه رئيس البرلمان في تونس، والبرلمان هو صاحب السلطة الفعلية في الدولة، عبره تمرّ مختلف السياسات وتُضبَطُ جميع الخيارات.. فتونس لا تُحكم إلّا تحت مجهر برلمان الشعب.. وقد بات هذا البرلمان مزعجا.
يزعج هذا البرلمان فرنسا التي تريد لتونس حاكما خادما لها يمرّر سياساتها في مستعمرتها السابقة ويجلد الشعب بعيدا عن مسؤوليتها…
ويزعج أنظمة يحكمها أفراد مستبدّون لا يُسألون عمّا يفعلون لا يريدون لشجرة الديمقراطية أن تنبت في صحرائهم السياسية الجرداء…
ويزعج رئيس الجمهورية يخنقه الدستور بالحدّ من سلطاته وتغويه سلطة مطلقة يسيل لعابه ولعاب حاشيته لها.. ودعك من شعاراته الجوفاء فهي لا تعدو أمانيَ قوليةً تمنّيه بطول البقاء…
ويزعج أبناء المنظومة القديمة لم ييأسوا فهم يخوضون دوما معارك الاسترداد…
ويزعح بعض الذين يئسوا من الانتخابات فكفروا بديمقراطية تأتيهم براشد الغنّوشي، محكوم الإعدام سابقا، ليكون رئيس برلمان لا يترك، في البلاد، شاردة ولا واردة إلّا أحصاها…
حين ترى المشهد المتراكب من المتضرّرين من ثورة الشعب التونسي العنيدة التي نجحت في تجاوز مختلف الأعاصير، تعلم أنّ الغنوشي ما تقدم لرئاسة البرلمان إلا ليكون مسيح الديمقراطية يُصلب على صليبيها لتنجوَ البلاد من يهوذا ومستعمليه القتلة.. يستوى القصد وغير القصد في ذلك…
انقد الغنوشي والإخوان والخوانجية والإسلام السياسي وتجار الدين كما تشاء.. وسُبّهم بما أُوتيت من بلاغة وارمهم بسياط هجائك الممكنة..
ولكن أن تنخرط في حفلة الردح المطالبة بسحل الغنوشي لأنّك تكرهه فلن تكون غير بيدق أحمق تحصد وتُدمى يداك من فعل الحصاد لينتهيَ حصادك في بيدر عبير موسي التي لن تخسر عليك سوى “زغردة” تنويها لنسختها الأصلية زين العابدين بن علي دونك…
ولن يكون لك أكثر ممّا كان لليسار منّوا أنفسهم بمنّ الحكم وسلواه فحنوا ظهورهم لبن علي حين جاء إلى الحكم.. وبعد أن فتك بالخوانجية أذاقهم هم حرّ سياطه.. وظلّت ظهورهم محنية لها ربع قرن من الزمان.. حوّلتهم إلى دخان…
قد تسمع من عبير موسي زغردة..
ولن تسمع منها، إن سمعت، شيئا آخر سوى
شكر الله سعيكم
لتكون السياط من نصيب ظهرك هذه المرّة.