نور الدين الختروشي
نودع الشهر الكريم على طبول الحرب والتحارب والتهارج التي تدقها بحماس اطراف خاسرة من الثورة والديمقراطية، وبدعم إعلامي وسياسي ومالي مفضوح وتحت الشمس من المحور المصري الخليجي المعادي لأشواق العرب في التحرر من أنظمة القمع العاري.
تدق نواقيس الحرب هذه الأيام، والبلاد تودع كابوس الطاعون الذي ضرب العالم بأقل الخسائر، بل وبشهادة نجاح وامتياز، وكأني بالمفسدين في الأرض استكثروا على التونسيين فرحة انتصارهم على الوباء فأبوا الا ان ينغصوا عليهم بهجتهم.
التهييج ضد الثورة
المتابع للحالة التونسية ومسار تطورها بعد الثورة يلاحظ موسمية التهييج ضد الثورة ومنجزها السياسي، والتي كانت متزامنة مع بداية السنة الإدارية، حيث تستعيد مفردات الخطاب المشنع على حركة النهضة أولا وعلى النخب السياسية الجديدة عموما، على اعتبارها مسؤولة على استشراء الفساد وتوقف قطار التنمية وترذيل منجز الدستور والحرية.
هذه السنة انتظرت القوى المتضررة من الثورة بداية الصائفة لتنطلق في حملتها المسعورة وتجييشها وتحشيدها لمعركة جديدة سموها ثورة الجياع.
نسجل على هامش المحاولة الجديدة النقاط التالية:
1. السياق الإقليمي والدولي في صالح تونس الجديدة رغم بهتة ديبلوماسيتنا، وضعف أداء رئاسة الجمهورية والمحاولات القليلة لرئيس مجلس النواب لملأ الفراغ تحت قصف بالمباح وغير المباح من خصومه. فالوضع في ليبيا يتجه بحسب مؤشرات الحرب على الميدان نحو تغيير استراتيجي فارق لموازين القوة لصالح حكومة السراج الشرعية، وَما افتكاك قاعدة الوطية منذ يومين، سوى تعبيرا مباشرا عن استعادة حكومة طرابلس المعترف بها دوليا للمبادرة الميدانية بعد ان خسرت الشريط الغربي، وكادت تسقط طرابلس في يد ميليشيات حفتر. الغريب المستراب ان مؤسسة الرئاسة التي تعلم أن محور الدعم لحفتر معادي للتجربة التونسية، ومتآمر عليها، مالت طيلة الاشهر السابقة نحو ذلك المحور، واقتربت منه لحد اتهامها بتهيئة المناخ لتعلن دعمها لمحور آل زايد بليبيا، بدعوى الواقعية ورصد تحول موازين القوة بعدما رجح فريق الرئيس احتمال سقوط طرابلس. وهو ما باعد الشقة بين الرئيس ورئيس البرلمان، الذي تحرك وبادر على أرضية ثوابت سياستنا الخارجية في التعاطي مع الملف الليبي وهي الاعتراف بالشرعية والحياد الإيجابي والحرص على وحدة ليبيا ودفع اطراف النزاع الى طاولة التفاوض والبحث عن حل سياسي سلمي للحرب القائمة مع التمسك بثابت التنسيق مع الجزائر في هذا الملف تحديدا.
رغم أن مساعي الغنوشي كانت تحت هذا السقف، فإن المتربصين بحركة النهضة وزعيمها في كل مرصد، فعلوا ما استطاعوا لتشويه تلك المسعى، واتهام رئيس البرلمان بالخيانة الوطنية والعمالة للمحور التركي القطري.
المهم أن دعوات حل البرلمان والفوضى هذه السنة تنشط وتتصاعد ومؤشرات المعادلة الإقليمية تحديدا في دول الجوار الجزائر وليبيا ليست في صالحها.
2. تقاطعت مطالب قوى الفوضى هذه السنة مع رغبة الرئيس قيس سعيد في تغييير النصاب الدستوري والنظام السياسي المستتبع كما قدمه في برنامجه الانتخابي، وعبر عنه اكثر من مرة في تدخلاته كان أخرها في قبلي بمناسبة تدشين مشفى عسكري متحرك اهدنه قطر في اطار الحرب على كورونا، حيث دعا الرئيس الى اعتماد مبدأ سحب الوكالة من نواب الشعب ليساهم بوعي او بدونه، في تصعيد خطاب قوى الفوضى، وشحنهم النفسي، وتصعيد جاهزيتهم السياسية. وقد استغل المتربصون هذا التقاطع، لتوسيع الفجوة بين قرطاج وباردو، ودفع التجاذب الناعم بين سعيد والغنوشي حد الصراع والتنافي.
3. حكومة الضرورة التي تشكلت بين الرباعي حول الفخفاخ، وجدت نفسها مباشرة في مواجهة مستجد الوباء، ونجحت بهذا القدر او ذاك في أول مهامها. ولكن ما صدر عن رموز حركة الشعب العروبية ودعوتهم بالصوت العالي لدعم حفتر والسيسي وبشار أجج نيران الصراع مع شريكهم الإسلامي في الحكم، وعمق من المخاوف التي حذرت من عدم انسجام المركب الحكومي، وقابلته العميقة للانقسام والتفكك، وهو ما استغله الداعون لثورة الجياع فتقاطع خطابهم الحاقد على النهضة ورمزها مع خطاب رموز حركة الشعب، وتماهى معه، كما تماهى مع خطاب الرئيس في تصعيد مَشاعر الحقد على المحور التركي القطري وتقديم البلدين الشقيقين في صورة الغزاة ومصاصي الدماء. والهدف دائما حركة النهضة التي مثلت منذ الثورة الدعامة الأساسية لمنظومة ما بعد الثورة بحيث اذا سقطت النهضة يسهل بعدها نسف مقومات التجربة أو هكذا اعتقد ومازال كل الخاسرين من الثورة. ليتعاموا على حقيقة عمق التحول الذي أحدثته الثورة في الضمير الجمعي والوعي العام، فالثورة كما هو معلوم لم تفجرها الأحزاب ليرتبط مصيرها بمصير حزب مهما كان حجمه وتأثيره.
4. ما تختلف به دعوة الانقلابيين والفوضويين هذا الموسم هو الشعبوية المقيتة التي مهد لها خطاب الرئيس في حملته الانتخابية وما بعدها، وتلقفها الحزب الحر الدستوري بزعامة عبير موسي التي وجدت في منبر البرلمان فضاءا لبث خطاب تخوين َوترذيل النخب الجديدة، ليجد خطابها صدى في شارع تائه وغاضب من المحصول الاجتماعي للثورة ومسارها، فالخطاب الشعبوي الذي يتغذى من الأزمات يجد في عمق الأزمة الاجتماعية ما يستحق من مفردات ليؤثث سردية الحقد والغضب والرفض العبوس للموجود السياسي الوطني. في تقديري هنا كل الخطر وكل الانتباه يجب أن يركز على ممكن تحول الشعبوية لتيار شعبي جارف ستستعمله في حرق الأخضر واليابس وتأميم الحياة العامة بعد هدم المعمودية الدستورية القائمة. فالتاريخ البعيد القريب يروي ان سردية الشعبوية كما عرفتها أوروبا بين الحربين تسببت في سقوط الديقراطية ودمار العالم.، وهي تعود اليوم بقوة في القارة العجوز مع صعود احزب أقصى اليمين التطرف، وقد تعصف بالراسمالية المالية ونظمها السياسية خاصة بعد أزمة كورونا التي يتنبأ نخب العالم بأن آثارها ستكون كارثية وربما تسبب انهيارا شاملا لاقتصاديات العالم شرقه وغربه.
5. حوادث الحرق المتعمد والمتكرر للأسواق وناقلات الفسفاط والغابات في الأيام القليلة الفارطة تؤشر على تداخل اجندة ما نسميها بالدولة العميقة مع قوى التخريب السياسي، وهي بنهاية الدلالة استعادة غبية لما حصل في في زمن حكم الترويكا من تحالف نكد بين ثالوث الثَورة المضادة والخاسرين من الديمقراطية ومافيا السوق. وهذا يدفعنا للتحذير من ورقة الاغتيال السياسي التي لن تتوانى قوى التخريب عن استعمالها اذا لم تنتبه الدولة الى دلالة تكرر وتسلسل الحرائق َوتسارع في كشف عصابات الإجرام والجهات السياسية التي تحركها.
أمام كل السابق مطلوب من كل الأطراف الوطنية وفي مقدمتها الرئاسيات الثلاثة أن تنتبه الى خطورة ما يعد في غرف التآمر على امن البلاد َوستقرارها. وذلك بسد منافذ الفتنة ورتق شقة الخلافات بينها، وباستراتيجية تواصلية مضادة تفضح جيوب الردة والانقلابيين وتركز على الأولويات الوطنية الحارقة، في مقدمتها إعداد برنامج إنقاذ وطني شامل يحد من التداعيات الكارثية لأزمة كورونا على اقتصاد بلدنا المأزوم قبل كورونا بعوارض أمراض هيكلية مزمنة دفعت كما هو معلوم خزينة الدولة الى مشارف الإفلاس.
وهذا يتطلب توسيع مساحة المشترك بين القوى الوطنية المؤمنة بقدرة التونسيين على تجاوز محنهم و سد المنافذ على قوى التخريب والفوضى المتوثبة لخرق السفينة وإغراقها بما حملت في ظلمات التحارب الأهلي.
المطلوب من حاسة السياسة والمناورة عند القوى الوطنية الصادقة والحريصة على المصلحة الوطنية، ان تدفع لتذويب الجليد بين الفرقاء واستعادة المبادرة بنزع فتيل التهارج، وتقوية الجبهة الداخلية، والتفرغ لاستحقاقات المرحلة، وأولويات اللحظة، وهي من الوضوح الذي لا يستحق الدهاء ولا الذكاء، بقدر ما يستحق الشجاعة الأخلاقية والإرادة السياسية لرسم خارطة طريق واضحة للخروج من الأزمة، ووضع البلاد على سكة الإنتاج والتطور….
هنا صرة المعنى ومربط الفرس.
الرأي العام