Site icon تدوينات

مقاومة الفساد الحرث في الماء والرماية في عماية

أبو يعرب المرزوقي

أبو يعرب المرزوقي

أبو يعرب المرزوقي

مرة أخرى النهضة تسيء تقدير الموقف وتتصرف بصورة يعسر تحديد دور لها في الحكم يتجاوز “الاليبي” لخصومها الذين لهم السلطان الفعلي عندما يحتاجون لمن يحملوه مسؤولية فشلهم. كان من المفروض الا تخوض معركة خاسرة حتى لو ربحت بعض الانتصارات الهزيلة التي لن تقدم ولن تؤخر. ذلك أن معركة الفساد مستحيلة العلاج من دون ثورة فعلية من يحكمون حاليا يعادونها جوهريا وذلك لعلتين:

  1. فالفساد محايث في بنية قيادات الدولة نفسها قيادات أجهزتها العشرة وإدارتها رعاية (التربية وتقسيم العمل والثقافة والاقتصاد والبحث العلمي) وحماية (القضاء والداخلية والدبلوماسية والدفاع والمخابرات) لأنها كلها لا تمثل إرادة الشعب ولأن من شروط الوصول إلى الحكم حاليا هو نقيض هذه الإرادة. ولا يمكن أن تمثلها. فسلطان الحامي هو المسيطر عليها جميعا لأن القيادات تستمد تمكينها السياسي منه وهي لتوظيف من يخدمه من عملائه حتى صار جل ذوي النفوذ مجنسين بجنسيته.
  2. وهي في تقاسم لبن البقرة التونسية وثروات أرضها بين الاتحادين اتحاد العمال واتحاد أرباب العمل لأنهما كلاهما يعيش على مص دم الشعب بتوسط الدولة وبالتقاسم مع فرنسا وقريبا معها ومع شريكها الجديد أي إيران: تونس في مسار سريع إلى اللبننة. وإذا تعثرت الثورة في ليبيا لا قدر الله واشتد الأمر بالجزائر التي فقدت جل مصدر رزقها بتدني سعر البترول فتونس ستصبح لبنان الثانية.

ويكذب من يعتقد أن نتائج الانتخابات محددة في بلد متسول في الحماية والرعاية. ومن ثم فهو فاقد لشرطي السيادة. وإذن فما يجري ليس فيه رقيب وليس عليه حسيب. فهل يمكن أن نحاسب كل الفاسدين وهم جل الإدارة وجل النقابات وجل الصحفيين وجل المثقفين؟ ومن سيحاسبهم وجل الذين يصلون للسلطة في تونس لا يصلونها من دون تواطؤ مع الفاسدين وبرضاهم لأنهم هم أهل الحل والربط في ما يسمى بالدولة العميقة.

والمعلوم أنها بدأت تسيطر على تونس منذ أن فقد بورقيبة القدرة على الحكم ثم استفحل الأمر مع ابن علي وتفتت قيادتها بعد الثورة بسبب هروب زعيمها الاكبر وزوجته فصار غطاؤها كل الذين اثروا في عهدهما أو صار لهم صيت بفضله وخاصة من حارزات تونس المتفيقهات وكل من كان في خدمة المافيات من الاعلاميين والمثقفين والإداريين الكبار. ومن ثم ما نراه من تعدد الاصول التجارية التي تسمى أحزابا حتى صار عددها اكثر من عدد النواب وإن لم يتجاوز عدد الوزراء ومستشاريهم ودواوينهم في شعب يكاد يعود بالتسول إلى الكوميسيون المالي؟

وخوض النهضة هذه المعركة على أنها حرب على الفساد دليل سذاجة قياداتها ومشاركة بوعي في كذبة تخادع الشعب ودليل عدم جدية قادتها ووزرائها لأن الاخلاص لتونس يوجب الاستعداد الفعلي لمثل هذه المهمة بتوسيع القاعدة الشعبية وتحديد الاهداف الآجلة وعدم الغرق في الآجل. فالإخلاص لا يعني خوض معارك الهدف منها الكذب على الشعب فلا عن جعلك عاجزا حتى عن حماية نفسك بعد أن خسرت ثلثي قاعدتك وستخسر في هذه المعركة الثلث المتبقي. فالشعب لا يعنيه من يخوض المعارك الخاسرة خاصة. ثم إن من يدعيها ويحكم بشعارها ليس أنت وما أنت فيها إلا مجرد أداة ستصبح هدف حلف بينه وبين الفاسدين الكبار الذين لن تمس شعرة منهم وهو بمساعدتهم سيرميك بمجرد أن ينال شرعية من بعض جهدك.

وقد حصل نظير ذلك عندما ضحيت من أجل المحافظة على الديموقراطية وربما خوفا من المآل المصري بالمبالغة في التنازلات التي لا حد لها. لكنك مع ذلك صرت تعتبر المسؤول على ما حصل خلال العقد الماضي من تردي حياة الجماعة حتى صرت علة كل ما حصل رغم أنك لا ناقة لك فيه ولا جمل: لأنك كنت مجرد صورة في حكومات السبسي. أليست معركة الفساد هي شعار عبو؟ فلماذا ينوبه وزراء النهضة؟ ألا يفهمون أنه يبني استراتيجيته كلها ليس على محاربة الفساد بل على التضييق على الإسلاميين وظيفة عين لأجلها بوعد إعطائه ما يطمع فيه في نهاية الدورة؟

لا أعتبر ما يفعله وزراء النهضة تفان حقيقي لأن من لا يفهم أن المعركة لا يخوضها وزير يمكن لوزير آخر أن يلغي قراراته أو يحتاج الوزير لتبرير مواقفه لأدنى صباب في الإعلام بل هو “دي زال” فارغ وهو دليل على الحمق السياسي والتظاهر بالشجاعة الكاذبة التي لن تمس من الفاسدين إلا من يعتبر “فيزيبل” في دولة الفساد كما فعل الشاهد مع أقل الفاسدين وزنا ولعله كان مظلوما إذا قسناه بغيره من القطط السمان. وحتى لو نجح بعض وزراء النهضة في شيء من المعركة فلن يعترف أحد لهم بذلك -كما نرى موقفهم من وزير الصحة والسكوت على معركة وزير النقل والتضييق على المحليات والسكوت البين من رأسي السلطة التنفيذية على الحملة المنظمة حاليا على المجلس وعلى الإسلام- ولن يخرج تونس من مأزقها لأن ذلك شرط التبعية القصدية.

معركة التحرير المنقوصة لا يمكن أن تتم خلال معركة التحرر من دون حركة شعبية ذات قاعدة واسعة لم تعد في متناول النهضة بعد أن حجمت إلى العظم بسبب الأخطاء الناتجة عن التكتيك عديم الاستراتيجية والذي تقدمت فيه معارك الحركة الداخلية على المصير المشترك للجماعة: ومعركة تحرر المواطنين معركة ثقافية وفيها الإسلاميون صفر على صفر وخاصة بعد أن زعموا التخلي عما يسمونه دعوة. ماذا بقي لهم؟

هل لهم برنامج ثقافي أو تربوي أو اقتصادي يمزيهم أعني يقبل الوصف بأنه مبني على رؤية إسلامية تقدمية ليس من مهامها العناية بالعبادات والقبول بالمعاملات التي هي جوهر بعده السياسي وا لاجتماعي؟ يشطحو على طار بفلس بدعوى الإكراهات السياسية والواقعية وهي بالتدريج ستنتهي إلى الانتهازية. تكتيك دون استراتيجية علامة على نفاد الصبر والخوف من ضياع فرصة المشاركة ولو تابعين. والله أفهم التبعية مثلا للسبسي أما لدمية وخادمه ولحزيبين ليس فيهم إلا ثلاثة منتخبين دون فضلات هزلت والله.

لو كانت كل الحكومة تعمل فعلا باستراتيجية مكافحة الفساد لفهمت ولصدقت أن ما يقوم به وزراء النهضة عين الحكمة. لكن مستحيل أن تعمل الحكومة بها لأن الذين بيدهم السلطة الفعلية لم يقع انتدابهم لهذه الغاية بل لعكسها. فليس لهم قاعدة شعبية وهم لا يمثلون إرادة الشعب بل إرادة من نصبهم وفرضهم. ولا يوجد عاقل منهم يمكن أن يسعى لتغيير ما يدين له بوجوده في حكم البلاد. هل يمكن أن يكونه عبو قد “خنس” من غير سبب؟ هل يعقل أن يدخل مثل هذه المعركة وقد وعدوه بما ينتظره بفارغ الصبر في 2024؟

وزراء النهضة إذا لم يكن ما يفعلونه دليل سذاجة فهو دليل سوء تقدير سياسي لأن النتائج لن تكون بالقدر الذي يجعل التغير الاقتصادي والاجتماعي كافيا ليؤثر في مواقف الناخبين بالحد الذي يجعل الحزب يسترد ما خسره من قاعدته. ولا تقلي مصلحة الوطن تقتضي التضحية. فالقيم في السياسة لا تتحدد خلقيتها بالنوايا بل بالخطة التي تحقق الهدف الخلقي. وهو ما يعني أن الخلقية تتحدد بما يقرب من تحقيقه بالطرق المشروعة وهي جعل الشعب يختار بمقتضى برنامج وليس بالمشاركة الهامشية في برنامج لا علاقة له بمرجعيتك الفكرية والروحية.

فمن يقدم على القرارات الصعبة يزداد شعبية بعدما تنتج أفعاله النتيجة المنتظرة في برنامج يعتبره الشعب طريقه لأمرين: استرجاع سيادة الوطن رعاية وحماية واسترجاع كرامة المواطن وحريته. أما المشاركة في الحكم للحكم فهو رهان خاسر لأن تشريك الإسلاميين في برنامج مناقض لكل هذه القيم فالهدف منه تحجيم دورهم وتحميلهم كل فشل ينتج عن فعل صاحب البرنامج المناقض لبرنامجهم. الهدف من تشريك الإسلاميين في هذه الحكومة يشبه من يضع ممسحة حذائه في العتبة ويرميها عند الحاجة.

كذلك فعل الشاهد مع الحركة لما ظن التكتاكون أنه عصفورهم النادر. نفس الخطة يطبقها الفخفاخ والأحزاب التي بيدها الحل والربط من دعوا إلى حكومة الرئيس وهي ليست حكومته بل هي حكومة فرنسا وإيران. وإذا واصل الإسلاميون تصديق خرافة أنهم ذوبوا خصومهم فتلك مصيبة المصائب: هم الذين ذوبهم خصومهم بأن خسروا ثلثي قاعدتهم وسيخسرون الثلث الباقي. ومن النكبات القيس على تركيا. ففيها أربعة أجيال وليس حزب أردوغان وحده هي التي عدلت البوصلة لبناء قاعدة واسعة فرضت ما نراه يتحقق فيها.

Exit mobile version