نور الدين الختروشي
الدعوة إلى حل البرلمان ونسف النصاب الدستوري القائم، بدأت أياما بعد انتخابات التأسيسي مع مبادرة الموازي باقتراح محسن مرزوق وَنشطها سمير بالطيب لاحقا واغلب من تداول على منابر بالقاضي والبلومي وعكاشة زمن حكم الترويكا وكادت أن تنتهي بمصيبة التحارب الأهلي لولا حكمة النخب التي أدارت مبادرة الرباعي يومها.
الدعوة تتجدد مع كل بداية سنة سياسية بصيغ متعددة ورسالة وَاحدة مدارها استعداد الخاسرين من الديمقراطية لإسقاط السقف على الجميع.
الجديد والمقلق في هذه الدعوة انها تتقاطع اليوم مع برنامج الحكم المجالسي في ما سمي ببرنامج الرئيس، والذي وصل قرطاج مدججا بشرعية حوالي ثلاثة ملايين ناخب، وفي ظل مركب حكومي هش، اقل تماسكا وانسجاما من كل الحكومات التي تداولت على القصبة بعد الثورة.
لا شك أن عبث بعض النواب، وفساد البعض، و فضائحية مشاهد التلاسن وَالسب بالمباح وغير المباح داخل قبة البرلمان، قد ساهمت في اقتناع الكثير من التونسيين بعدم أهلية النخب السياسية لحكم البلاد وتسطير مصيرها. هذا واكثر منه معروف ومتداول لدى الرأي العام منذ صولات ابراهيم القصاص، و سب الجلاله على لسان النائب اليساري منجي الرحوي. فالمواقف العام من الأداء البرلماني كان ومازال مشككا في جدية المؤسسة، واهليتها للقيام على دورها المركزي والحيوي في الحفاظ على توازن النظام السياسي الجديد الذي أقره دستور الثورة، فضلا عن وظيفتها التشريعية والرقابية..
الجديد في العهدة النيابية الحالية هو ترأس الاستاذ راشد الغنوشي للبرلمان في خطوة رمزية قوية قوامها تطبيع الاسلاميين التونسيين لعلاقتهم مع الدولة، واحداث قطيعة عنيفة في مخيال ووعي النخب اللائكية التي لم تستوعب -ولا تريد أن تستوعب- إلى اليوم حقيقة النقلة التاريخية العميقة التي أحدثتها الثورة بعنوان النقلة بالاسلاميين من هامش المجال السياسي الى قلب مجتمع الحكم.
لست هنا بصدد تقييم مبادرة حركة النهضة بترشيح رئيسها للبرلمان ثم بتقديمه لرئاسته، ولكن اسجل فقط ان النهضة قد غامرت بتصدير آلة الدعاية السوداء ضدها من مونبليزير الي باردو.
لتمرر من خلالها رسالة استراتجية فارقة مفادها ان رغبة، او ارادة، او اجندة استئصال للاسلاميين، ستكون مستقبلا في مواجهة مفتوحة مع الدولة وعلى حسابها.
الدعوة الموسمية لزرع مفاعيل التهارج الاهلي والفوضى تأخرت هذه السنة من الشتاء الى الربيع بفعل تأخر تشكيل الحكومة وأزمة الوباء. والجديد في دعوة هذا الموسم ليس التوقيت فقط بل اساسا في تقاطع هذه الدعوة مع برنامج قيس سعيد الداعي لشطب الديمقراطية التمثيلية لصالح الديمقراطية الَمجالسية المباشرة، وشدة هجوم الصفحات المحسوبة على أنصاره على الاحزاب السياسية ورموزها والدعوة المتكررة لحلها واعادة تشكيل المشهد على نموذج النظام الرئاسوي الابوي الوصي على الموجود السياسي.
نلاحظ عند هذا الحد التركيز الممنهج للدعاية السوداء على حركة النهضة وتحميلها المسؤولية الاخلاقية والسياسية على الوضع الاقتصادي والاجتماعي الكارثي، وهذا التركيز والتكثيف لمعاني الدعاية الخبيثة القائمة على الافتراء والكذب والإشاعة، لا يحيل على حجم مسؤولية حركة النهضة على مآلات الوضع، بقدر ما يحيل على وعي الاذرعة الداخلية والغرف الخارجية بأن النهضة كانت ولا زالت اهم دعائم التجربة الجديدة، ومن مقومات استقرارها، بل وعنوان التحول التاريخي العميق من زمن الاستبداد الى زمن الحرية.
ما يقلق في هذه الدعوة إلى جانب التقاطع مع برنامج الرئيس هو هشاشة التركيب الحكومي في القصبة، وعدم امتلاكه للشروط الاستقرار والاستمرار، وذلك بالنظر لحدة التناقض الايديولوجي بين الاسلاميين والقوميين، والذي برز في تصعيد الموقف من الملف الليبي والدعم اللامشرط الذي عبر عنه رموز حركة الشعب العربية لميليشيات المشير حفتر المدعوم من المحور الاماراتي المصري وفرنسا، خاصة بعد الهزائم الميدانية التي تكبدتها في الأسابيع الماضية وتراجعها الى الشرق تحت ضربات حكومة السراج المدعوم من تركيا وقطر.
ليس جديدا دعم التيار القومي للنظام السوري وكل الدول والاطراف العاملة على إجهاض الثورات العربية والانحراف بها إلى مربعات الارهاب والتقاتل الاهلي، الجديد الصادم هو ان ذلك الموقف يصدر عن حزب حاكم من المفترض أن يلتزم بالسياسة الخارجية للدولة، والتي ما فتئت تذكر في مواقفها على مبدأ الحياد والالتزام بالشرعية الدولية. ولا يمكن تفسير هذا الشذوذ السياسي المقرف الا بدالة العبث بالمصالح العليا للدولة، مما يجعل التقاطع بين فوضى المعنى في موقف حركة الشعب، وفوضوية الدعوة لاسقاط الحكومة وحل البرلمان وصمت مؤسسة الرئاسة الغير محمود، دلالات أعمق واخطر من مجرد الصدفة. وقد لا نتعسف اذا اولناها بتبادل الأدوار في أفق مؤامرة ممكنة الاطاحة بالموجود الدستوري والسياسي، خاصة إذا استحضرنا تغريدة طحنون ابن زايد على تويتر والتي توعد فيها ثورتنا بمصير بقية بلدان الربيع العربي.
تفاهة الاصوات المنادية بالانقلاب على المسار تقلل من جديتها وتطمئن انها مجرد دعاية سوداء لبث البلبلة وتعميق الشرخ بين قرطاج وباردو والقصبة، وتفجير التناقضات داخل المركب الحكومي، ولكن عدم استواء الحالة السياسية على ثوابت راسخه، َوتعدد الاطراف الخاسرة من الديمقراطية، وتغول اذرعة المافيا وحيتان السوق، وتقاطع استراتجياتها في استفراغ الثورة من معانيها ومحمولاتها السياسية مع اجندة خارجية واقليمية نشطة ومعلنه على عنوان إجهاض التجربة التونسية كفرقة ناجية من ظلمات لعبة الدم َالرصاص في المحيط العربي. كل هذا وغيره يدفعنا الى الحذر والاستعداد لكل احتمالات تطور الحالة التونسية التي تبحث عن ساعة تلتقط فيها أنفاسها وتتفرغ لانجاز الممكن من اشواق التونسيين في حياة حرة وكريمة وعادلة.
ما العمل ؟؟
ثورة جديدة . ؟؟
الثورة على الثورة هي دائما ثورة مضادة، وان تلحفت بلحاف تصحيح مسار الثورة الاولى، وحتى ان وقعت هذه الثورة فهي والى حد الساعة متروكة للقدر، بل بحساب الحاضر الوطني ستكون اكثر عفوية، وفائض العفوية سيرمي بها حتما في فوضى ثمنها سيكون من دماء التونسيين، ولن يربح فيها رابح وسيخسر الجميع.
الاحتمال الثاني هو السقوط في مربع الفوضويين والاستجابة لغواية المباراة بالرصاص. يقيني في الحالة ان تونس الثورة لن تنتصر ليس لأن اعدائها أقوى، ولكن لان تسعة اعشار مفاعيل التجارب الداخلي بيد الخارج الاقليمي والدولي، أو هكذا اثبتت الحالات العربية في السنوات الاخيرة.
الحل الثالث -وهو الاصعب سياسة- هو ان نتمسك بوحدة الدولة وبالسلم الأهلي كخط أحمر، ونناور ما استطعنا لتجنب الحرب الأهلية، ونتمسك بالاقصى من مكاسب منجز 14 جانفي، ونتعكّز دون ان نتثاقل في الدرب الاصعب، وهو تحديدا التمسك بالحامل السياسي والمدني للمعركة، ومواصلة استراتجية المناورة على ألغام القوى المتضررة في الداخل والخارج من الديمقراطية. وهذا لن ينجز الا باستراتجية الدمج بين مصلحة الدولة ومصلحة القوى المؤمنة بالثورة والديمقراطية.
دعوة رئيس الجمهورية لتفعيل الفصل 80 من الدستور تصدر اليوم عن جيوب الردة والازلام وغرف التآمر الاقليمي، والمقلق الجديد فيها وحولها هو تعبيرها عن رغبة معلنة من الرئيس في نسف اسس الديمقراطية التمثيلية.. هنا مكمن القلق وهنا صرة المعنى.. وهنا علينا واجب التقريب بين الرئاسات وسد المنافذ على الاصوات المشبوهة التي تدفع بنعومة ممنهجة لاستعداء الرئيس والنفخ في مزامير الغيرة ومغالبة رئيس البرلمان ورئيس الحكومة.
الراي العام