فتحي الشوك
ما كنت أودّ أن نستدرج إلى معارك جانبيّة نحن في غنى عنها، في لحظة تتطلّب منّا التركيز التّام أمام ما يتهدّدنا من مخاطر تشمل وجودنا، لكن ما باليد حيلة وللضّرورة أحكامها.
وزيرة الثقافة الّتي لا نعلم لها علاقة بالثقافة تثير ضجّة وتستقطب الأضواء بتدوينة أولى بلغة موليار تصف فيها من اعترض على منح تصريح لإكمال تصوير مسلسلات التّفاهة والإلهاء بأنّهم تنقصهم تربية الثّقافة مع أنّ منهم من لهم باع وذراع في الشّأن الثّقافي ومنهم الأدباء والشّعراء والسيّنمائيين والمسرحيين والرسّامين وغيرهم، لتستدرك تسرّعها وحماقتها باعتذار خجول محشوّ بشتيمة أخرى ناعتة مخالفيها بتدنّي قدراتهم على الاستيعاب والفهم وقد كتبت ما حسبته اعتذارا بالعربيّة هذه المرّة، ثمّ لتسحبه بعد أن سحبت تدوينتها الأولى.
شطحات وتشنّج قد يفسّر بقلّة الخبرة وانعدام التّجربة وعدم الإحاطة الكاملة بالشّأن الثّقافي وبطبيعة الشّعب التّونسي بصفة عامّة وقد يفهم تخبّطها بأنّها تعمل تحت الضّغط وتنفّذ ما يملى عليها.
فلا شكّ أنّ حماستها لأجل تفاهات هي أبعد ما تكون عن الثّقافة وحميّتها الّتي استثيرت لا علاقة لها بالثّقافة وبفنونها السّبعة، فأيّ مبتدئ يجزم أنّ ما يروّج له من أعمال مبرمجة في رمضان يمكن تسميتها بأيّ مسمّى الّا أن تكون ثقافية أو تثقيفية وليست سوى باب للالهاء وتغييب الوعي وموعد موسمي للسّرقة ونهب وإهدار المال العام.
لسائل أن يسأل كيف لنا أن نفتح بابا لإنفاق أموال فيما لا يغني ولا يسمن من جوع في حين أنّ من يدافعون عنّا في الخطوط الأمامية يفتقدون لأبسط وسائل حماية أنفسهم؟
وكيف لنا أن نفرض على من بدأ يكتوي مادّيا بالحجر الصحّي ونستثني بانتقائية مقيتة قلّة على رؤوسهم ريش النّعام؟
ثمّ كيف سنقنع أنفسنا والبعض بأنّ غلق المساجد ومنع صلوات الجماعة ضرورة تبيح المحظورات في حين تُفتح علينا مواسير القاذورات؟
لسنا ضدّ أيّ عمل ثقافي مهمّته النّهوض بثقافتنا وتنميتها ونشر التوعية والمعرفة والسّمو بالذّوق العام وقد نحتاج فعلا إلى ما يرفّه عنّا خلال هذه اللّحظات العصيبة الّتي نعيشها ويمنعنا من السّقوط في دهاليز الاكتئاب لكن ليس بما توفّره أعمال هي مولّدة للأمراض النّفسية والاجتماعية وتروّج للانحراف وتغتصب القيم الجميلة وتقصف ما بقي في المجتمع من بعض الدّفاعات.
أخطأت الوزيرة الصّغيرة مرّتين وباللّغتين لتسحب ذلك وربّ عذر أقبح من ذنب وهي في الحقيقة ليست سوى استمرار لسلسلة أخطاء من وزارة كانت ولا زالت مختطفة كما إرادتنا وقرارنا.
جول فيري (1832-1893) يعتبر من مؤسّسي الجمهورية الفرنسية الثّالثة وهو مثقّف وسياسي ومن أبرز مهندسي السّياسة الاستعمارية الفرنسية التوّسعية ومن منظّري المركزيّة الثّقافية الغربيّة الّتي ترى في المختلف الآخر تخلّفا وجب تحديثه وتمدينه في نظرة متعالية فجّة من قمقم الأنا المتضخّمة، قال ذات يوم (28 جويلية 1885) في خطاب له شهير أمام الجمعية الوطنيّة الفرنسية: “إنّ الأجناس أو الشّعوب السّامية تتمتّع بواجب الوصاية على الشّعوب البدائية المستعمرة ورعايتها ويجب أن تضطلع الشّعوب الأولى بدور تحضير الشّعوب الثّانية وتأهيلها، فمقولة حرّية، مساواة، أخوّة، لم تنشأ للشّعوب المُولّى عليها ولا تصلح لها”.
أطلق اسم جول فيري علي ألشّارع الرّئيسي في العاصمة التّونسية كما سمّيت باسمه مدينة بأكملها، تغيّر الاسم فيما بعد ليستحوذ عليه خليفته دون أن يتغيّر اللّقب والنّسب والمعنى وليواصل أحفاد جول عبثهم وصدامهم مع معطيات المكان والزّمان، تحديث قسري وتلاعب بالجينات أوصلنا الى ما نحن عليه الآن من واقع بائس، تماما كما الطّفرات الجينيّة المنتجة للأورام والتشوّهات وتحوّل الفيروسات.
كم نحتاج في هذه المرحلة ونحن نواجه وباء عالميا معولما إلى أن نستفيد من اللّحظة المتاحة للتّصالح مع ذواتنا وترتيب أولويّاتنا لننتصر ونتخلّص من الفيروس الطّبيعي ولنثبّط فعل وأثر الفيروسات البشريّة.
حفظنا وإيّاكم من جميع الفيروسات.
د.محمد فتحي الشوك.