محمد الصّالح السّعدي
أوّلهم كبار… وآخرنا صغار…
تعوّدت في هذه الأيّام المؤلمة، أيّام الحبس الاختياري الّذي سلّطته علينا كورونا اللّعينة أن أقضّي وقتي وفق نظام ضبطه لنفسي عن مضض. نهوض متأخّر من النّوم، سماع ما تيسّر من تّلاوات للقرآن الكريم مع فطور الصّباح، الاطّلاع على الأخبار من القنوات التّلفزيّة والانترنات، جولة في المحيط القريب وقضاء بعض الشّؤون، عودة إلى المنزل والغداء ثمّ القيلولة، العودة إلى الانترنات والمذياع والكتاب، العشاء والأخبار والمسلسل، نهاية المشاوير والعودة إلى الفراش. واظبت على تكرار هذه الأعمال لأكثر من ثلاثة أسابيع حتّى تحوّلت عندي إلى عادة بليدة. وأصبح يرهقني تذكّرها ونسيانها، ويتعبني العودة إليها والفرار منها، وأقف عاجزا عن الاقتناع بها والقبول بها كنظام اختياري له كثير من الفوائد لعلّ أغلاها التّوقّي من فيروس كورونا المميت.
الحقيقة أن هذا النّظام لا يختلف كثيرا عن نظام حياتي اليومي قبل اللّعينة، لم ينقص منه سوى القليل من الّلهو في المقهى، مقهى اليمن بضمّ الياء. هناك كنت أتمتّع بجلستين، الجلسة الصّباحيّة مع أترابي المتقاعدين مثلي نحتسي القهوة ونتجاذب أطراف الحديث ونناقش بقايا الأخبار في قليل من الجدّ وكثير من الهزل ثمّ نتفرّق والعودة إلى البيوت، والجلسة المسائيّة بعد صلاة المغرب مع هوّاة لعب الرّامي (لعبة ورقيّة)، وأنا منهم، كنّا نقضي ما يزيد عن السّاعتين وحتّى الثّلاث ساعات نلعب الورق ونحتسي الشّاي أو القهوة في صخب حينا وفي صمت أحيانا، يتناوب فيها التّواد مع التّدافع وحتّى مع التّنابز والتّشاجر، ثمّ دفع الخسائر والعودة ليلا إلى المآوي على أمل العودة نهار الغد. فلماذا إذا التّكدّر؟ ولماذا الملل؟ ولماذا هذا الضّجر؟ أنا لست وحدي في هذه الحالة. فكلّ النّاس في العالم تعيش نفس المصيبة وتكابد نفس المكابدة. أنا أحاول إقناع النّفس بالرّضاء دون جدوى فتح باب غرفتي ودخلت فتاة صغيرة على غاية من الأناقة والجمال. سلّمت ثمّ جلست قبالتي وهي تبتسم. تمالكت وتحكّمت في ذعري. وتوجّهت لها بالسّؤال: من أنت؟ ماذا تريدين؟ فأجابت في هدوء مريح: لا تخف، أنا أعرفك وأنت تعرفني. وأمام تعجّبي إلى حدّ التجمّد والانقطاع عن الحركة والكلام أفصحت قائلة: هل تتذكّر قصّة الأميرة السّجينة؟ لا شكّ أنك قرأتها في صغرك كما قرأها كلّ الأطفال” ودون أن تنتظر إجابتي أردفت قائلة “أنا هي الأميرة السّجينة، بطلة تلك القصّة، كأنّي بك لم تتذكّرني لطول العهد، لا يهمّ. سأروي لك قصّتي وستعرف سبب قدومي إليك. أنا الأميرة أو بالأحرى الطّفلة الصّغيرة الّتي سجنني أبي السّلطان في قصر فخم يحتوي على عديد القاعات والغرف، تتوفّر به كلّ متطلّبات العيش والرّاحة والتّرفيه والتّعليم وغير ذلك ممّا تحتاجه الأميرات الصّغيرات مثلي. كان يخدمني فيه عشرات الخدم والحشم ويحرسني الحرّاس من الدّاخل ومن الخارج. حبسني السّلطان في هذا القصر ومنحني الحرّية في العيش فيه كما أريد وأشتهي، لكنّه أمرني أن لا أقترب من غرفة واحد، ولا أفكّر في فتحها أو الدّخول إليها البتّة.
قضيّت أيّاما وليلي أرتع وأمرح في القصر كما أريد وأشتهي، أنا الآمرة النّهائيّة والنّاطقة الفاتقة، لا يردّ لي طلب ولا يعصى لي أمر. لكنّي كنت دائما أفكّر في أمر تلك الغرفة الّتي حرّم عليّ السّلطان دخولها ومنعني من مجرّد الاقتراب منها، بل من مجرّد التّفكير فيها. لكنّ هذا المنع حيّرني وشغل بالي ولم أتمكّن -رغم محاولاتي المتواصلة- من تقبّل الأمر ونسيان الغرفة الممنوعة. فرغم بعدها النّسبي عن غرفة نومي كنت أتحيّن الفرص لأمرّ من أمامها وأسترق النّظر إليها. ومّما زاد في إصراري على زيارتها أنّي كلّما سألت أحدا من الخدم أو الحشم امتنع عن الكلام. مللت الإطالة في سردها وتشّوقت إلى نهايتها وبكلّ اندفاع قاطعتها وقلت: “يكفى إطالة، أعطيني النّهاية. ماذا فعلت مع هذه الغرفة؟” تبسّمت وردّت في هدوء ولطف “على مهلك، على مهلك، سوف تأتي النّهاية في وقتها”. زاد ذلك في حنقي وتشنّجي وصحت “بسرعة من فضلك، هاتي الخاتمة، هل فتحت الغرفة ودخلتيها؟ ماذا وجدت فيها؟ أكملي بسرعة فقد مللت الانتظار” ودون أيّ انفعال ردّت “ما هذا يا عزيزي؟ ألم تتعلّم الصّبر بعد؟ يا ليتك تعامل كورونا اللّعينة كما تعاملني، فتخاف منك وتنصرف إلى غير رجعة. على كلّ حال سأكمل لك الحكاية. فقد كرّرت -في غفلة من الجميع- خلع الباب إلى أن انفتح فجأة فسقطتّ داخلها. ولفرط شوقي إلى معرفة أسرارها سارعت بالوقوف ورحت أجول ببصري في أركانها فلم أعثر على شيء، ثمّ أخذت أتلمّس جدرانها بأصابعي علّني ألمس شيئا غير عادي فلم أظفر بشيء. كانت الغرفة سقف وقاعة كما يقال، لا شيّة فيها على الإطلاق. أصبت بخيبة مخزيّة وشعرت بندم كبير على عدم وفائي بالعهد الّذي قطعته على نفسي لسلطاني. وتسمّرت في مكاني أبحث عن عذر أقنع به صاحب الجلالة، مرّت دقائق ثقيلة وأنا على تلك الحال، وإذا بيد تمسكني من ذراعي فالتفتّ فإذا هو جلالة السّلطان يديم النّظر إليّ، طأطأت الرّأس خجلا منه، وارتميت على قدميه أقبّلها وأتوسّل منه الصّفح. أوقفني ووجّهني إليه وقال “لماذا خنت العهد؟ لماذا أصررت على فتح الغرفة والحال أنّي وضعت تحت تصرّفك كلّ غرف القصر ما عدى هذه؟” غلبني الخجل وجمّد لساني النّدم على فعلتي” فبادرني بصوت أكثر حدّة “أجيبي.. تحمّلي مسؤوليتك وبررّي صنيعك..” تمالكت وتشجّعت وأجبته بكلّ ثقة “الحرّية يا سلطاني، أريد الحرّية، الحريّة كاملة، كاملة يا سلطاني” أبان عن بسمة صغيرة وقال “تريدين الحرّية كاملة. إذن خذيها” ثمّ نفخ وصفّق بيديه فإذا بي أطير في الفضاء وأبتعد شيئا فشيئا حتّى غاب عنّي السّلطان ولم أعد أرى القصر وبقيت أسبح في الفضاء إلى اليوم. ثمّ قالت وهي في غاية الانشراح “فما أجمل الحرّية يا جدّي”.
مكثت لحظات أتأمّل هذه القصّة العجيبة ثمّ توجّهت لها بالسّؤال “إذن لماذا تلومينني على ما أنا فيه من ضجر وقلق، فأنا مثلك أريد الحرّية كاملة بعد أن حرمتني كورونا اللّعينة من جزء منها، حرمتني من جلساتي في المقهى، جلسات الصّباح للدّردشة مع أندادي المتقاعدين، وجلسات المساء للعب الورق”. تعجّبت من كلامي وقالت “تتصرّف كطفل صغير وأنت في عقدك السّابع بينما أنا كنت وقتها في العام السّابع من عمري. الآن فهمت المثال القائل “أوّلهم صغار وآخرهم صغار” أعجبتني تبريراتها ولكنّي أردت أن أحافظ على مكانة المعلّم المضيف دائما فعقّبت “كلامك صحيح، لكنّي وددت لو قلت -أمام الحرّية أوّلهم كبار وآخرهم كبار-“. ودون إذن منّي طارت إلى الفضاء الرّحب وهي تقهقه وتشير إليّ بيدها بما يعني “اصبر ولا تقلق، سوف أعود…”.