منجي الفرحاني
مرّت بائعة الورد الصغيرة هذا الصّباح من أمام بيتنا وهي تبوح بابتسامتها التي تخفيها الكمّامة بعينيها السّاحرتين البريئتين وتغنّي مع العصافير التي تجلّت زقزقتها لخلوّ شوارع المدينة من المارّة وضجيج المحرّكات..
كلمات أغنيتها الصّغيرة كانت تروي حكاية عصفور ضاعت منه حبيبته في زحمة المدينة وصخبها، كان يبحث عنها في كل مكان حتّى تعبت جوانحه وبحّ صوته من زقزقات النّداء..
رقّت لحاله عصافير المدينة وخرجوا أسرابا يبحثون معه عن حبيبته ولكن دون جدوى، كانت زحمة المدينة وضجيجها أكبر من إرادتهم، ثم جاء الفرج من حيث لا يدري العصفور فقد فرّ فجأة من شوارع المدينة أهلها وصمتت محركات السيّارات إلا من سيارات الإسعاف أو دوريّات الشرطة والجيش يحثّون النّاس على التزام الحجر في بيوتهم..
ماذا يجري يا ربّي تساءل العصفور؟
ثمّ استجمع ما تبقّى له من جهد في صيحة أخيرة:
– أجيبيني يا عصفورتي الجميلة، إننّي قد متّ بعدك!
فأجابته من مكان ما في عمق المدينة:
أنا في قفص بائعة الورد يا حبيبي، انقذتني من فكّ قطّ شريد وضمّدت جراحي ووعدتني أن تحرّرني حال شفائي، ألم تسمعني؟ كنت أناديك صباحا مساء..
فرح العصفور وأدرك حبيته وهو حيران هل يشكر بائعة الورد أم فيروس الكورونا الذي أخرس المدينة!
تذكّرتُ التي أتعبتني وأنا أحملها منذ أمد بعيد بين ضلوعي، حوّاء واسعة العينين كأنّها مها شاردة في صحراء ربعي الخالي ولمّا خارت قواي سقطتُّ على قلبي فسال منه عشق كثير أغرق المدينة الحزينة فتبسّمت وأمرتني بالوقوف دون أن تسندني..
اتّكأتُ على ضحكة بائعة الورد ونهضت متفائلا كأنّني عصفور حكايتها الذي عادت إليه روحه زمن الكورونا التي فتكت بأرواح الكثير وأوقفت الدنيا كلّها وكأنّها جاءت لتعيد له عصفورته..
أهدتني وردة بريّة كي أهديها إلى التي هي في البال، تلك التي أتعبتني..
هممت بدفع ثمن الوردة ولكنّها لم تقبل، قالت:
– اشتري بثمنها خاتما من ياسمين لصاحبة العيون العربيّة العسليّة عندما تأتي، واللّه ستأتي… ثمّ قبّلت خدّي من وراء كمّامتها واحتضنت تفاؤلي بدفء ثمّ تركتني غارقا في ما سال من قلبي من عشق منكسر الخواطر وغادرت المشهد..
وضعت الوردة في زجاجة صغيرة جميلة، نصفها يحمل ماء الحياة ونصفها الفارغ يحمل تساؤلا لا يُرى رأي العين عن فيروس الكورونا، إن كان سيحرّر عالمي الجميل من الأنانيّة والجشع والظّلم؟!
في عينيها يترنّح عالمي القديم الجائر..
في عينيها يولد عالمي الجديد الجميل..
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.