بشير العبيدي
قال أحد الأصدقاء: “غريبٌ أمري، صرتُ لا أفهم ما أتابعه من أحداث في المنطقة العربيّة، فما الذي يجري؟”.
قلتُ: لا شيء ينبغي أن يستغرَب عند فهم آليات تشكل الأحداث، وتوالدها من أسبابها.
إن الأحداث التي حدثت بالأمس، أو تحدثُ اليوم، أو ستحدث غدا، ليست سوى سلسلة مترابطة ومتداخلة، نتيجة لأوضاعٍ سابقةٍ، تنضاف إليها معالجات أو تفاعلات تالية، بُنيت على أساس تصوّرات وتقديرات خاطئة وغير مناسبة.
ولذلك، فالأحداث القادمة المتوقّعة وغير المتوقّعة، ستكون بالتأكيد نتيجة أوضاع اليوم، التي هي بدورها حصاد أموات الأمس، ومعها حصاد المعالجات والتفاعلات التي يقوم بها أحياء اليوم، إن خيراً فخيرٌ، وإن شرّا فشرٌّ.
نحن لا نستطيع أبداً تغيير حصاد الماضي. ذلك من المحال. لكنّنا نستطيع، يقيناً، التأثير على مجريات الأحداث المستقبلية. لكن هذا الأمر مشروط بفهم ما جرى في الماضي فهماً صحيحاً، غير ملوّث بلوثة الوهم والأدلجة والتمذهب. كما يتطلّب الأمر انتهاج المعالجات والتفاعلات الصحيحة في الوقت الحاضر والمناسب، وعدم استعجال النتائج والاكتفاء بالسير، مطمئنين، في طريق صحيحة، حتى لو كانت تلك الطريق ملتوية ومحفّرة وشاقّة.
ولقائل أن يعترض: لماذا لا يحدث هذا السير المستقيم في الطريق الصحيحة، ولو كانت نكدة، في منطقتنا العربية؟
وجواب ذلك: أن السبب يعود على الأرجح لما في تصوّراتنا وما ينتج منها من معالجات خاطئة، وسيئة. وقاعدة ذلك كلّه: “لوموا أنفسكم”. ولوم النفس ليس جلد الذات، بل يختلف لوم النفس عن جلد الذات في أمر محدد: أن جلد الذات لا يطال الأفكار، بل السلوك. أما لوم النفس فهو موقوف على مراجعة الأفكار. وهكذا، لوموا أنفسكم معناه: راجعوا تصوّرات مجموعتكم البشريّة التي تشترك في وطن ومنظومة قيم مشتركة. تلك التصوّرات إن كانت خاطئة، تصبح جميع المعالجات منخرمة، فتزيد الطين بلّة!
وما هي تصوّراتنا التي قد تكون نتيجتها المعالجات الخاطئة والسيّئة التي تزيد الطين بلّة؟
إنّها الثقافة التي صاغت أفكارنا ونظرتنا للحياة والإنسان والكون. تلك الثقافة اختزلت واختزنت صوراً تمثيليّة هي التي نرى بها الوجود بكل أحداثه. وكلّما كانت تلك الصور مزيّفة ومهترئة ومتضاربة، أنتجت مشاعر وأحاسيس سلبية وسيئة، ونتج عنها السلوك الجماعي والفردي منعدم الفاعلية، ومنخرم الروابط ومنهزم الأداء. ثمّ كانت تلكم الأفكار مصدر حكم على كلّ ما يحيط بنا من أحداث، والحكم هو الابن الشرعي للتصوّر الأول. وهذا ما تعلّمنا إياه القاعدة الذهبية القائلة: “الحكم على الشيء فرع عنْ تصوّره”. وإذا أردنا تغييراً ما في طريقة معالجتنا وتفاعلنا مع الأحداث، لا مهرب أبداً من التضحية بأفكارنا السابقة، أو بجزء فاسد منها على أقلّ تقدير. وهذه مهمّة شاقّة جدا، وأصعب من تسلّق جبال الهملايا، خصوصا لمن غطّى أفكاره بسرابيل القداسة، وألبسها سراويل الطّهر والنقاء.
ولنأخذ أمثلة تساعد على جلاء هذا الأمر:
• فكرة تفضيل الاستبداد: نحن لا نحسن التعاطي مع ثورات الشعوب اليوم، لأنّ تصوّراتنا مبنيّة على تقدير خطير يقول: “كنّا بخير تحت الاستبداد، وليتنا نعود لزمن الاستبداد”. هذا التفكير صورة محفورة في عقول كثير من الناس، لأنّهم يظنُّون – واهمين- أنّ الأوضاع تتغيّر مثل تغيير مشاهد الأفلام، يقصّ المخرج مشهدا، ويفتح مشهداً جديدا ! بينما في واقعنا، كلّ ما نعاني منه اليوم هو محصلة إجرام الاستبداد اللعين، مضاف إليه سوء تعاطينا وفساد عملنا لمعالجة آثاره. لنتأميل ما يجري في تونس الأمل التي لا تستطيع أن تشكّل حكومة، لأن الذين ورثوا الحكم من بعد الاستبداد أغلبهم صور مصغرة للاستبداد الذي كانوا يحاربونه، فهم يعيدون إنتاج الاستبداد بالرأي، ورهن ملايين الناس بخزعبلاتهم وجدالهم الذي لا ينتهي ومهاتراتهم التي لا يفعلها الصبيان. ولو خرج كل هؤلاء من الصورة التمثيلية التي يحملونها عن “الماضي”، لاكتشفوا حجم اللعنة التي أصيبت بها الشعوب العربية جرّاء عشرات السنين من العيش في فحش الاستبداد البغيض، وتمثّل سلوكه وإعادة إنتاج فساده.
• فكرة خلط استقلال الإدارة عن استقلال الإرادة: نحن لا نحسن التعاطي مع استقلال الأوطان لأنّنا نعتقد – واهمين – أن أوطاننا مستقلّة الإرادة. والحقيقة أنّ الاستقلال الذي رأيناه وعشنا في كنفه كان “استقلال الإدارة” ولكنّه لم يكن أبدا “استقلال الإرادة”. والفرق شاسع جدّا في هذا الموضع. من هنا، تعامل الجيل السابق واللاحق مع استقلال الإدارة على أنه استقلال الإرادة، وقام الاستبداد بتغفيل الشعوب العربية كلّها، وفي حقيقته لم يتم استقلال الإرادة عن الاستعمار السابق، وأجيالنا تعاملت مع هذه الصورة تعاملًا مبنيًا على فهومات خاطئة. ونتيجة ذلك، العصابات التي تتحكم في الثروة والسلطة والإعلام في البلاد العربية، هي عصابات تمعّشت من الاستبداد والاستعمار وتشرّبت ثقافة الذلّ والهوان والخضوع، وصارت ترى كلّ محاولة للإفلات من هذا الواقع فوضى وإرهاب وفساد في الأرض، وهي مقتنعة بهذا التصور أكثر سبعين مرّة من اقتناعها بالوحي القرآني. لنتأمل ما يجري في الجزائر من حراك منذ ما يقارب السنة، بعض الناس صاروا يشعرون بالملل من هذا الحراك، وفي ظنّهم أن العصابات التي حكمت الخلق سبعين سنة، ستملّ من الحراك بعد سبعة أشهر، وهو محال. السلوك لا يتغير بسلوك. السلوك يتغير حين تتغير الفكرة التي باضته. وطالما لم تتغير الفكرة، لن يتغير السلوك. وحين يقتنع الناس بالحقيقة الصادمة التي هي فرق ما بين استقلال الإدارة واستقلال الإرادة، سيرون الدنيا بعيون مختلفة، ويساهمون مع شعوبهم في تصحيح المسار والمعالجة، بدل العرقلة والترذيل.
• موقف ترذيل الفكر وتفضيل الإنجاز: في أذهاننا صورة خاطئة عن الفكر، ونعتقد أن الفكر هو تفلسف، وسفسطة، وخزعبلات. ونفضل دائما “الجانب العملي”. المشكلة، ليست في تفضيل الجانب العملي، فذلك أمر صواب. المشكلة أنه لا يوجد شيء صغير أو كبير من “الجانب العملي”، وإلا وخلفه فكرة، ونظرة، وصورة عقلية. وكثيرا ما لا تنجح “الطرق العملية”، لأن الذي يقوم على تفعليها لا يؤمن بالفكر. فالفكر في الثقافة العربية المعاصرة جريمة عند الاستبداد، يعاقب عليها، أو يكافئ من يقوم على تزويرها وتزييفها وتسويقها للعوام الجاهلين بخلفياتها. والفكر في نظر كثير من الفقهاء “كفر” وسفسطة. والفكر عند كثير من “المفكرين” شطحات ولطخات وتقلّبات… فساهم الجميع في تبخيس الفكر، وترخيص قيمته في “السوق”، فلا أحد يهتم بالتفكير إلا القلة القليلة، وشاع البحث عن “الأفكار الجاهزة المعلّبة”، فانتشر التفكير المعلّب والمصبّر مثل معلّبات ومصبّرات الطعام، وهو مثلها أيضا في تاريخ الصلوحية، ففات زمن صلوحية الأفكار المعلّبة، ولا يستطيع الناس إنتاج أفكار جديدة، فتراهم يواصلون استهلاك المعلّبات الفكرية، حتى بعد انتهاء صلوحية استهلاكها بزمن طويل. وهذا ما يحصل للتفكير الشيوعي والاشتراكي، والتفكير الديني المتمذهب، والتفكير الطائفي والعرقي، يواصل الناس الإيمان بصور ذهنية فاتها الزمان، فتسبب مزيد التفرق والتمزق. هذا النمط من التعاطي السلبي مع الفكر، جعل المجتمعات العربية تُقبل كثيرا على “السياسيين” المشهورين، وتؤيد ما يقولونه، ظنّا منهم أن الساسة ينتجون الفكر. ولا ينتج الساسة الفكر، لأن السياسة تنتج الفرصة، أو الورطة. ولا تنتج الفكر. والسياسة مبنية على المصالح المؤقتة، واستغلال المناسبات للانقضاض عليها. وإن أردنا أن تعالج الأمور معالجة أخرى مناسبة، فلا مناص من حسن التعاطي مع الفكر، واستئناف الفكر الحرّ لدوره في صياغة الحياة، وصياغة عقود العيش المشترك.
• موقف التعاطي مع القوى الكبرى المهيمنة: ولأن الصورة الذهنية العربية المعاصرة تشكلت في ثقافة مشوّهة بالاستبداد والأدلجة المشطّة والتمذهب والتديّن الزائف، أصبح المعارضون للأنظمة الاستبدادية هم صورة مصغّرة عن الاستبداد ذاته، وإعادة إنتاج له. نرى ذلك في مواقف عدد غفير من معطوبي الفهم من الذين تراهم يرحّبون بالمستعمر الذي يأكل خيراتهم، ويدمّر حضارتهم، ويخرّب ثقافتهم، ولكنّهم يرفضون – أشدّ الرفض – أن يتعاطوا مع بعضهم البعض، وأن يتعاونوا مع من يقترب من ثقافتهم وقيمهم. وهكذا، يصبح الوجود التركي في ليبيا احتلالا بغيضا مرفوضا، والاحتلال الروسي مرحب به، ويصبح الوجود الغربي واستغلاله آبار النفط ومناجم الأرض حلالا محلّلا، بينما التعاون التجاري مع بلد يشترك مع الشعوب العربية في ثلاثة أرباع القيم مرفوضا ومحقودا عليه حقدا لا يفسّره سوى العمى المؤدلج، ووصول القوالب الفكرية المعلّبة إلى درجة من التعفّن الفكري والتحلل الجرثومي المؤشّر على الموت القريب. ومن المواقف الأكثر رداءة، من يحمل ساطور القضاء على الدين وملة الدين، وهو في ذلك يتعاون مع أنظمة دينية مغلقة فاسدة، تعذّب البشر باسم الله، وتقتل الناس باسم الله، وتشتت شمل المجتمعات باسم الله، وتزنى فكريا باسم الله، وتأكل الربا باسم الله، ولكنها ترى الحرية من عمل الشيطان. والأدهي من كل ذلك، أن هذا القيح الفكري يجد في العوام والخواص من يقبله، ويؤيّده بقوّة، ويشربه ويعتبره عذبا فراتا، وهو قيح متعفن، مما يدلّ دلالة دامغة على أننا نعيش في بيئة ثقافية وفكرية موبوءة، مريضة، تتطلب ثورة عقلانية غير مسبوقة، تستأصل العفن الفكري الذي استقر في العقول لعشرات السنين.
يوجد اليوم تيار واسع بدأ بالتشكل في البلاد العربية، يكفر بهذا الكفر، ويطالب بالتغيير. هذا التيار لم يصل بعد لموقع القرار، لكنه سيصل، لأن تواصل الأوضاع المتعفنة غير ممكن. وسيصل هذا التيار إلى فرض إرادته، لكن بعد إجراء عمليات قيصرية كبيرة على الأفكار السائدة المعلّبة، التي فات زمن استهلاكها من زمان، ويواصل الناس الاعتياش على عفنها.
أفكارنا فقدت صلوحيتها. علينا التفكير مجددا في إنتاج أفكار غير مسبوقة تلائم أوضاعاَ جديدة غير مسبوقة. ولا بد من التفكير من خارج الآلام والصناديق لإنتاج أفكار جديدة. أقولها. وأمضي. لكي لا نغرق في دموعنا، ونتهم المطر.
✍🏽 #بشير_العبيدي | باريس، ربيع الثاني 1441 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا