المولدي لحمر
يُروى أن أحد النواب الأمريكيين في الكونغرس أو مجلس الشيوخ، في السبعينيات من القرن الماضي، صاح ذات يوم في وجه أحد مسؤولي المخابرات المركزية التي فشلت لتوها في تدبير انقلاب عسكري في بلد بأمريكا اللاتينية قائلا: اعطوني ربع ما صرفتموه من مال في هذه العملية لأصرفه في تكوين خمسة آلاف طالب وسيأتون لنا هم بالرئيس الذي نريده لهذا البلد. معنى هذا الكلام أن الدبلوماسية ليست فقط جغرافيا وموارد ومصالح بل كذلك وبالخصوص عقولا تُصنع وتصورات يجري تحويلها إلى قناعات ونماذج تفكير.
وعندما نقول عقولا فذلك يعني تكوينا ودربة على العمل الدبلوماسي، وقدرة نقدية على مراجعة القناعات وإعادة تعريف المصالح بحسب كل مرحلة من مراحل تطور المجتمع والمعطيات الجيوستراتيجية الإقليمية والعالمية السائدة، بل أكثر من ذلك إنه يعني أن النظرة الجيوستراتيجية للذات في إطار محيطها الإقليمي والعالمي لا تعدو أن تكون صناعة تاريخية، وتركيبا يحمل في طياته علاقات القوة التي تصنع المخيلة، وبتكرار الخيارات والشروط وإعادة إنتاج العقول التي تحمل تلك المخيلة، تتشكل نظرة جيوستراتيجية تتحول إلى روتين، فمصالح بعضها خاص، فقناعات يجري الدفاع عنها رغم أنها قد تصبح أحيانا مكبلة ومضادة للمصالح الوطنية.
وهناك مثال على كيفية صناعة الإرث الدبلوماسي الذي يصبح عقلا يفكر بصاحبه لا موضوعا يفكر فيه صاحب العقل، وهو علاقة البلاد المغاربية ببلدان جنوب الصحراء. فتاريخيا بُنيت الحضارات المغاربية في علاقة وطيدة مع بلدان جنوب الصحراء مع انفتاح نشيط على شمال المتوسط وشرقه. لذلك وإلى حدود بداية القرن العشرين كان تجار واحة غدامس الشجعان يتكلمون حوالي ستة لغات، كانوا يحتاجونها في علاقاتهم التجارية المتشعبة مع ما كان يسمى بلاد السودان، التي كانت تمتد في تمثلهم الجيوستراتيجي لمجال حركتهم من مالي غربا إلى حدود السودان الحالي شرقا. وعندما قطع الاستعمار الفرنسي هذه العلاقة، وقتل سنة 1905 شيخ الطريقة السنوسية، صاحب التأثير القوي في تشاد الحالي ومناطق دارفور في السودان، أعاد تصميم مخيلة المغاربة وتمثلهم للجيوستراتيجا الإقليمية والعالمية، مستلا منها لنفسه دواخل إفريقيا وجنوب الصحراء.
ولأن القناعات الدبلوماسية ليست إلا صناعة تاريخية، فإن تغييرها يعني وضع تلك الصناعة موضع سؤال نقدي وطني، وإدراك عميق للتحولات الكبرى ولتغير موازين القوى الإقليمية والدولية، بما يعني تعديل تمثلات مصالح الوطن. يمكن بطبيعة الحال أن يجري هذا بطريقة سلسة طويلة المدى، تتراكم خلالها التعديلات إلى أن تنبثق منها استراتيجيات جديدة، كما يفعل المغرب الأقصى منذ أزيد من عقدين. لكن عندما يقوم شعب بثورة من الأسفل باتجاه الأعلى، بما يعنيه من طلب في تغيير طرق تمثل البلاد لمصالحها ولكيفية توزيع مواردها ولمنوال تنميتها القديم، ثم في المقابل تحافظ النخبة على طريقتها في تمثل تلك المصالح وتلك المناويل، فمعناها أن روتين التمثل الاستراتيجيى للذات، بما يتضمنه من مصالح أو من غربة إيديولوجية (وهو صناعة تاريخية) يكاد ينتصر فعلا!
المثال التجريبي لاختبار هذه الفكرة هو المثال الليبي. لا خلاف بين كل أعضاء النخبة السياسية-الفكرية التونسية على أن ليبيا جارة في الجغرافيا وحميمية في الاجتماع والثقافة، وأنها تمثل بالنسبة لتونس عمقا استراتيجيا أمنيا بالمعنى الشامل للكلمة، أي عسكريا واقتصاديا وسياسيا. ومن ناحية أخرى، وحتى يدرك البعض حجم التحدي الذي تواجهه الدبلوماسية التونسية تجاه الحالة الليبية لا بأس من التذكير هنا بأن مساحة ليبيا تقارب 10 مرات مساحة تونس، وأن عدد سكانها تقريبا نصف عدد سكان بلادنا، وأن ثرواتها من البترول والغاز والمواد المنجمية الأخرى ضخمة جدا، وأن الدول الطامعة في هذه الثروات جادة بقوة في إخضاع الليبيين إلى مشيئتها، وتبذل قصارى جهدها كي تحتكر تلك الموارد أو تحصل منها على أكبر قسط ممكن، ولو بالحديد والنار كما هو جار حاليا. وكل هذا يعني أن الصيغة التصالحية أو الانقسامية النهائية التي ستنتهي إليها الأزمة الليبية ستؤثر بشكل حاسم على تونس لعشرات السنين، وان نوع هذا التأثير مرتبط بالموقع الذي سنجد أنفسنا فيه عند نهاية الأزمة.
هنا تبدأ الأسئلة الحقيقية: هل تقرأ قراءة صحيحة الحالة الليبية؟ هل لدينا أدوات قراءتها من الداخل ومن الخارج بشكل مستقل؟ هل إرثنا الدبلوماسي مواتي لمواجهة تحديات هذه الحالة؟ هل موازين القوى في المتوسط مازالت كما كانت منذ أن استقلت بلادنا؟ ما طبيعة العلاقات الصراعية المعقدة بين اللاعبين المؤثرين في الملف الليبي؟
في الفترة الرئاسية التي كان فيها المرحوم الباجي قائد السبسي مهندس السياسة الخارجية، كانت سياسته مبنية على مقولة التفادي (إلا عندما طلبت منه أوربا المساعدة)، ومحاولة الاستفادة من تأثيرات ما لا يحدث! لكن في المقابل ظلت تونس تنتظر أن يحدد لها الآخرون دورها ومكانتها ومكاسبها المحتملة من العملية السياسية. وأفق هذه الدبلوماسية معروف: حينما يحصل الآخرون على نصيبهم نأخذ نحن من كل شيء بطرف بحسب تمثلنا لحجمنا، وفي الحقيقة بحسب الإطار الذي وضعه التاريخ الاستعماري لعقلنا ولفعلنا الدبلوماسي.
هل تغيرت هذه المعطيات؟ أظن أن هناك ما يكفي من الحوادث الجديدة للإجابة بنعم.
- أولا هناك ثورة وقعت في تونس ومن مطالبها تحقيق شروط الاستقلال التنموي.
- ثانيا هناك ثورة هوجاء في ليبيا تخبلت حبالها وسقط الكثير منها في يد القوى الخارجية التي تمنع الليبيين من الاتفاق على ما ترى هي أنه في غير صالحها.
- ثالثا هناك ثورة من نوع خاص جارية في الجزائر الشقيقة قد تُحرر الكثير من طاقاتها الكامنة وتعطي لوزنها الإقليمي مضمونا اقتصاديا جديدا ومختلفا (حاليا بطيء التبلور –استثمرت الصين في الجزائر 20 مليار دولار).
- رابعا هناك قوة بشرية وتاريخية شرق ليبيا (مصر) قد تحقق في المدى المتوسط، على حساب الديمقراطية والقضية الفلسطينية وتعويضا لما خسرته في بلدان النيل الجنوبية، مكاسب تنموية تجعلها أكثر قدرة وأشد إصرارا على التدخل في ليبيا. وهناك قوة متوسطية مسكونة بتاريخ امبراطوري، هي تركيا، لها أوراق تأثير خاصة جغرافية وإيديولوجية، أضافت لها خلال العشرية الماضية أوراقا اقتصادية غير هينة، وتتمتع فوق هذا بعلاقات قوية مع الناتو، وهي حاليا في وضع تنافسي مع فرنسا وإيطاليا على جنوب المتوسط، وهي في الحقيقة أقرب إلى التفاوض معهما في ذلك إذا ما ضمنت مكاسبها. وهناك بلدان عربية لا تملك القرب الجغرافي والوزن السكاني لكنها تملك حقائب استثمار ضخمة تريد استثمارها في ما يخدم مصالحها في مرحلة ما بعد البترول (بدأت بريطانيا منذ شهر في تزويد بعثاتها الدبلوماسية في الخارج بسيارات كهربائية!). وهناك على المستوى العالمي التصدع الكبير الذي أصاب ثنائية القطبين وبعد ذلك حالة القطب الواحد، إضافة إلى تباشير عصر قطب خط الحرير الصيني. وفوق كل هذا هناك في المنطقة صعود لتيارات سياسية دينية يخترق مجال عملها السياسي حدود الدولة الوطنية، ويتعامد مع الشركات الدعوية والاقتصادية العابرة، ولها تأثير كبير ثقافي-سياسي على ما يجري. وهناك في الأخير أهم الأوراق وهو الداخل الليبي، أي الشعب الليبي بمكوناته المعقدة وبمصالحه الوطنية العليا.
هل هناك قراءة صحيحة لهذه التحولات الكبرى وهل يحتم ذلك تحويرا استراتيجيا (بقطع النظر عن درجة هذا التحوير) لسياستنا الخارجية؟ اختبار عقل النخبة السياسية-الثقافية التونسية كان في زيارة رجب طيب أردوغان إلى تونس. ولكن الجزء الأكبر من هذه النخبة قابل هذه الزيارة بشكل متشنج وبكلمات نابية وبنكوص نحو روتين الدبلوماسية التونسية ومربعها التاريخي الذي توقف عن أن يخدم تونس، دون تحليل للحالة الليبية الداخلية، ودون استعداد للنظر إلى المسائل من جميع الزوايا، ودون تحديد مبتكر وجديد للمصلحة الوطنية.
من يحاول تفنيد فكرة أن تركيا جاءت من أجل فعل الخير إنما هو غير مؤهل للتفكير في الظواهر السياسية، ومن يُذكر بالاستعمار التركي لبلادنا لم يقرأ كتب المؤرخين التونسيين حول تونس العثمانية، ويتعمد نسيان تاريخ الإستعمار الأقرب وذلك بسبب قدرة هذا الأخير على التحول إلى مكون داخلي يستحوذ على العقل كما لمح لذلك السيناتور الأمريكي. والأخطر من كل ما تقدم، أن من يعتقد ان قوات حفتر ستدخل في النهاية طرابلس عنوة لا يعرف شيئا عن تاريخ ليبيا السياسي، ولا يقدر بشكل صحيح المواقف الحقيقية للدول الكبرى من ذلك.
اللعبة الحقيقية الكبرى إذن هي في استعمال حفتر لتحقيق المصالح خلال المفاوضات التي ستحدد مصير ليبيا لعشرات السنين القادمة، إذا ما اتفق أطرافها الكبار على مكاسبهم بعد الحرب الأهلية!
السؤال أين مكان تونس في هذه المفاوضات… التي ستأتي في النهاية؟ هل هناك تمثل جديد لمصالحها الاستراتيجية الكبرى في ظل هذا الوضع الجديد؟ هل ما تزال مقولة التفادي صالحة؟ إذا ما قدرنا أن الفتات كافي فهذا هو اقتصاد التهريب والفساد ودبلوماسية التبعية ذات البعد الواحد. وبالمناسبة أين مستثمرونا من كل هذا؟ هل نريد المساهمة في إعادة إعمار ليبيا عبر بناء الطرقات والمعامل والمساكن المهدمة ومد خطوط الكهرباء والماء وكوابل الأنترنت والاستثمار في الخدمات، أم نريد إرسال العمال إلى حضائر مستثمري اللاعبين الكبار ونكتفي بخدمة الترانزيت والتهريب؟ لماذا لا يساندون الدبلوماسية النشطة والشجاعة والقبول بالمُخاطرة، دون غلو وتحمل مسؤولية ذلك، حتى لا نُحشر من جديد في مربعنا الاستعماري الهزيل؟
لم يعد يليق بتونس بعد الثورة أن تنظر لحالها ولمستقبلها بعيون التابع المنكسر، ولم تعد تصلح بها سياسة الحياد التام والتفادي (التي هي في الواقع غير ممكنة) وخدمة اللاعبين الكبار مقابل جني الفتات. لكنه لا يمكنها المغامرة بمفردها، بل ينبغي عليها تكوين حلف سياسي قوي وجريء تفرضه عليها الجغرافيا المغاربية المباشرة والمصالح والوشائج، والاستماتة في التفاوض على مصالحها، دون التورط في أي حرب داخل الجارة الشقيقة أو على حدودها، وذلك بهدف مساندة الشعب الليبي في التقليص أقصى ما يمكن من الضغط الخارجي الذي يطحنه ويرتهن إرادته (وهذا يتطلب استقلالية القرار والشجاعة) ويقصينا عن مصالحنا ومصالحه، ولتضمن لنفسها العلاقة المميزة مع هذا الشعب، الذي يجب أن يعي جيدا أنه المسؤول الأول عما سيتحدد له من مصير خلال الثلاثين أو الأربعين سنة القادمة.
جريدة المغرب