عن جوهر.. والأخلاق والسياسة
ليلى حاج عمر
أستطيع أن أقول إني أعرف جوهر بن مبارك قليلا، ما يكفي لأقدّم حكما نسبيا حول ما حدث، ولأني لا أحب ردود الفعل البافلوفية، فقد صمتّ أمام ما قرأت من تهجّمات عليه وعلى والده المناضل عز الدين حزقي.
عرفت جوهر حين كنت في جمعية ميثاق للتنمية والديمقراطية التي أسسها، على ما أذكر، المناضلان جلبار نقاش وعز الدين حزقي، وكنت من مؤسسي أحد فروعها في الداخل، وكان عملها تنمويا ديمقراطيا، ومازلت أذكر الزيارات التي رافقنا فيها عز الدين حزقي إلى الأرياف من أجل إيصال الماء إلى بعض المناطق المعزولة والتواصل مع المواطنين هناك وإقامة بعض التظاهرات. كانت تجربة صغيرة عرفت فيها مناضلا فذّا لا يترفّع عن العمل الميداني ولا يكتفي بالتّنظير بل يقتحم مدارات الوطن، وسمعت فيها شهاداته الثمينة حول تجارب سياسية في تونس في عهد الاستبداد. أما جوهر فقد كان ضيفا في ندوات كثيرة أقمناها من أجل ترسيخ ثقافة الديمقراطية بصفته أستاذا في القانون الدستوري، وكان يتحلّى بموضوعية كبيرة، ومازلت أذكر سؤالا توجهت به إليه إحدى الرافضات لوجود الإسلاميين في الحكم حين قالت جزعة: ماذا لو حكم الإسلاميون ثانية؟ فأجابها: وما المشكل؟ أليس ذلك اختيار الشعب؟
في تلك الآونة، كانت الحملة على أشدّها ضدّ جوهر، من بعض الإسلاميين، بأطيافهم، وأذكر فائض العبث والسقوط الأخلاقي لدى البعض ممّن يفترض أن يكونوا حماة الأخلاق وهذا ما يجعلني أقول إنّ جوهر مدين لهؤلاء باعتذار، وإنّ اعتذارا شاهقا يجب أن يحدث اليوم بين من يوحّدهم الوطن وتفرّقهم السياسة، اعتذارا تاريخيا يوجّهه الكل للكلّ،يتمّ فيه تجاوز كلّ الاختلال الأخلاقي الذي رافق تجربة انتقال ديمقراطي يفترض أن نخوضها بقيم جديدة عالية وألّا نعيد إنتاج كلّ أخلاق الاستبداد التي تطبّع بها كمّ هائل من “المعارضين” لها، فأن تكون ديمقراطيا يعني أن تتحرّر من أعباء الدّيكتاتورية، وأن تنفض عنك عباءة القديم أخلاقيا وترفض السلوكيات الفاشية وتنتج أخلاقك الجديدة التي تليق بواقعك الجديد. دون ذلك، ستظلّ خارج التاريخ وإن توهّمت أنّك فاعل فيه.
لم يعد الوطن قادرا على تحمّل هذا الخبط الأخلاقي. لقد وهنت قواه، وخارت عزائمه، إنّه يحتاج اليوم قوّة مواطنية أخلاقية هائلة تقطع مع أخلاق البؤس التي أنتجها نظام تسلّطي جهويّ أوليغارشيّ. ومازالت الأقلية الحاكمة فيه فعليا بالمال والنسب تُقصي كلّ الفاعلين الصادقين، من خارج عائلاتها النافذة، الذين يهدّدون وجودها المتغلغل رغم ثورة قامت ضدّها. إنّه الصراع العميق الذي يفسّر كلّ إفشال للمبادرات الفعلية. والتحدي اليوم أن نلملم أنفسنا ونتداوى من تاريخ الكره ونجتمع حول إصلاحات كبرى وفق رؤية سياسية وطنية لا همّ لها سوى إنقاذ الوطن من السّقوط والفراغ ورعب شبح أراه قادما من بعيد..
أما سي حبيب بوعجيلة، فأخجل أن أتحدّث عنه. إنّه معلّمنا.. الكبير.