نصر الدين السويلمي
عندما كان الخصم ينتمي إلى سلالة الأحرار وبعد أن انتصرت بفارق عريض في استحقاق التأسيسي أخذت النهضة جميع حقوقها جل القصبة لها وفق نتائج الصناديق وآلت رئاسة البرلمان ورئاسة الجمهورية إلى الشركاء، هناك كانت تمارس حقها بالكامل وتتوسع فيه، لأنّها كانت أمام أحزاب وشخصيّات تقاسمهما مهمّة أم الولد، تخشى على التجربة كما تخشى عليها النهضة وربما أكثر، أثبت ذلك فيما بعد بن جعفر والمرزوقي والدايمي وغيرهم..
ثم عندما اكتسح النداء والسبسي بعد أن عادا على عربة تجرّها قوى التكلّس الأيديولوجي، ولمّا لاح الانسداد وكانت البلاد أمام زواحف تجمعيّة عائدة بقوة الدستور والقانون وبتواطؤ من حفريات التكلّس وأصبحنا أمام خيار انقلاب الثورة على منتوجها الدستوري ونسف التجربة الديمقراطيّة لأنّ التصويت الاحتجاجي أعاد المنظومة، وإلا مسايرة العمليّة بما تحمله من خطورة، حينها كانت النهضة هناك لتجري واحدة من أخطر العمليّات الجراحيّة في عصر ما بعد الثورة، كنّا أمام فرضيّة انقلاب الثورة على التجربة، من خلال عدم الاعتراف بالنتائج ومن ثمّ اعتماد التصعيد الثوري وما يعنيه من خراب أو مسايرة الكيان التجمّعي العائد تحت جنح الدستور ومحاولة إفراغ عبواته بأشكال ذكيّة وهادئة وتزويده بضمانات وتطمينات تؤكد له سهولة التسيّد بالديمقراطية دون الحاجة إلى نسف الثورة والانقلاب إلى ما قبل سبعطاش ديسمبر، حينها وقع زعيم النهضة تحت وابل من اللعن والتخوين والتشويه، بعد أن قرّر مرافقة الألغام العائدة ومراقبتها عن قرب! وفعل ونجح.. هناك ومقابل أن لا تتعطّل التجربة وتقع البلاد في الفراغ، قبلت النهضة بتقبيل جلاّدها ! كما قبلت ببعض كتاب دولة مقابل كل الدولة للنداء، ونتيجة لذلك قامت قوى الاحتكار الثورجي بنهش النهضة، أرادوا سلخها من كل حاضنتها الثوريّة، وقدِموا إلى التضحيات الجسام التي تحمّلتها وسوّقوها على أنّها خيانة موصوفة، وفعلا تعرّضت الحركة إلى نزيف حاد كان يمكن أن يقضي عليها لولا حرسها القديم وحطامها البشري المهشّم الذي تحامل على نفسه واستجمع جراحه ونهض لنجدة أخرى بعد النجدة الألف… ثم ما لبث أن ذهب التجمّع وظلّت الثورة وتواصل المسار وعاد العالم يتحدّث بفخر عن تجربتنا الحكيمة، ونشر بعض الصعاليك وقطاع الطريق والسماسرة والقراصنة، نشروا مقالات أو عناوين لمقالات غربية تشيد بحكمة التجربة التونسيّة وثقافة التعايش وقدرتها على الصمود… أحد منهم لم يتعرّض إلى الجهة التي أسّس للتعايش ومن تحمّل ضريبة التعايش ومن ثمّ سلخه حتى يستقيم التعايش ويشيد العالم بتعايش تونس.
ثم جاء الامتحان الكبير.. هدأ انتقام الشعب وجنح في استحقاق 2019 إلى نتائج يقول الناس أنّها ثورية!!! ثمّ دخل الجميع في حوار لتأثيث الحكومة، ثمّ وبعد محنة التنازلات في 2014 وجدت النهضة نفسها أمام محنة الترضيات! وانطلقت سلسلة المطالب والتعنّت، كانوا يطالبونها ويشطّون في مطالبهم ثم يذهبون إلى المنابر الإعلاميّة لشتمها وملاحقتها بالتهم، كانوا يتشرطون ويشترطون ثمّ ينفون عنها الثورية والهوية ويلحقونها بخانة التجمّع ويصمونها بالفساد، كانوا يقولون لها يا بنت الكلب نريد بعض وزارات السّيادة وتحييد الأخرى مع تحييد رئاسة الحكومة! كانت تفاوضهم من أجل حكومة تواصل المسار وتصدّ شماتة الضباع المنفّطة، وكانوا يسحبونها ليلتقطوا لقياداتها الصور تحت صورة الزعيم، ثم يكتب بعضهم في صدر صفحته “لقد رضخ وجاء إلينا ههههه”، كانت النهضة في بيت يحتوي على أثاث شديد الحساسيّة، يعجّ بصبيان الهرج، وعليها أن تدير التفلّت وبالتوازي تحافظ على الأثاث… كانت تلهث…
ثم وبعد الانتهاء من اللمسات الأخيرة وحين تقرّر إعلان الحكومة وقدّم الجملي التاريخ لذلك، عادوا إلى ما قبل الصفر، نكصوا وشطبوا كل ذلك المجهود الذي استفرغته السّاحة، ولعلّ أوضح التعبيرات على ذلك جاءت من أحدهم لمّا دوّن “الشيخ التكتاك جاء شكون يتكتك أكثر منو بالشوي بالشوي حصل كيف….خسر تحيا تونس وخسر ائتلاف الكرامة واش كلبك مات”، تلك هي أعلى درجات المصلحة الوطنيّة، أن تقوم بمناورة من أجل إيقاع الخصومة بين الحزب الأول في البلاد وبين الائتلاف الواعد الصاعد، ذلك هو منتهى برنامجهم، أن ينتقموا من حزب بجريرة النجاح وبجريرة قيادة المرحلة وبجريرة استحواذه على حقبات النضال والمحن منذ ثمانينات القرن الماضي، لقد قرّروا أن يرجموا النهضة بجمجمة الدولة، بأعضائها وحتى بأحشائها!
ستنجح تونس وستمضي إلى المجد وستتحوّل كل هذه الصعوبات والمؤمرات إلى الأرشيف، سيذكر التاريخ أنّ زمرة محنّطة استقدموا الباجي إلى السلطة ذات 2014 ليدمّر لهم التجربة فرفض وسفّههم ومات والمسار على السّكة، ثم قدموا إلى السلطة سنة 2019 وأرادوا حفترة التجربة وتجاذبوا الحقائب وتنازعوها، أما نبيل القروي فقد قال لهم يوم 22/12/2019 ” إنّ حزبنا قد تنازل عن حقّه في تقديم مرشحيه لتولي حقائب وزاريّة تسهيلا لمهمّة الجملي”!
حتى أبو نواس في ذروة سكرته وفي ذروة شهوته وفي ذروة نشوته كان يحتفظ لنفسه ببعض عقل حتى يتجنّب ما يسخط الرشيد! إنّه ومن فرط الإسفاف والعربدة والانحدار المدقع، خرج عليهم نبيل القروي يحذّرهم من مغبّة العبث بالوطن، من فرط الانهيار الأخلاقي تحوّل القروي إلى لقمان الحكيم!!! ليت شعري إذا أصبح لقمانكم نبيل فمن أنتم إذا ؟!!!