تدوينات تونسية

اليوم العالميّ…

نور الدين الغيلوفي

الأيّام العالَميّة كثيرة ومتنوّعة ومفتوحة.. وقد تتجاوز، يوما ما، أيّام السنة.. جعلتها الأمم المتّحدة مناسبات للاحتفال “العالَميّ” بأيّام لمن يطلبها…

(اليوم) يُنعَت بـ(العالَميّ) مثلما يُنعَتُ الزمان بالمكان.. ومن ذلك: اليوم العالمي للمرأة واليوم العالمي للغابات واليوم العالمي للهولوكوست.. واليوم العالمي للغة العربية.. كأنّ العالَم واحدٌ موحَّدٌ لا فوارق فيه.. ولا اقتتال.. أو كأنّه بعد تمزيق المكان عمد إلى تمزيق الزمان.. إلى أيّام…

فما الذي تعنيه المناسبة؟

1. التسمية: أظنّ أنّ العربيّة تُنكر مثل هذا التركيب (اليوم العالميّ ل).. فإن كان ولا بدّ فأجدر بالعربية أن يكون لها (يوم اللغة العربيّة العالميّ) تجنّبا لركاكة تركيبيّة نابية عن الذوق العربيّ السليم.. وليس الاستعمال، هنا، حجّة.. لأنّ التركيب العربيّ ممكن ولا معنى لإهماله ما دام استعماله ممكنا…

2. العربية باتت لغة مهمَلَة وإن تكلّمها ما يزيد على المليار نسمة في العالَم يقرأون بها فاتحة الكتاب عند الصلاة لمن كان منهم يصلّي.. يتوسّلون بها أخراهم وقد لفظتها دنياهم.. نقول مهمَلة لأنّها ببساطة غير مستعمَلَة في معيش العرب اليوميّ.. والعرب، حتّى العرب، لا يحتاجونها لقضاء حاجاتهم.. وما أكثر حاجاتهم.. هي موضوع احتفال وليست لغة استعمال.. لأن العرب الناطقين بها باتوا شعوبًا مهمَلَة.. سبايا ضاعت دماؤهم بين حكّام مستبدّين فاسدين ومحتلّين غاصبين مجرمين.. والعرب تحت هذين الثّقَلين لا يتكلّمون عربيتهم إلّا صراخًا.. وكثيرا ما لا يُسمَح لهم بالصراخ.. فإن هم صرخوا كفّر بعضهم بعضا وخوّن بعضهم بعضا.. وعدا بعضهم على بعض…

3. لغتنا العربيّة الرشيقة الأنيقة لا تحتاج يوما عالميا تهبها إيّاه منظّمة الأمم المتّحدة.. لأنّ العالَم لن يبادر إلى التكلّم بالعربيّة في يومها.. بل لن يسمع حتّى بمناسبة الاحتفال بها.. وحتّى الذين يحتفلون بها من أبنائها سيتكلّمون عنها دون أنّ يتكلّموها.. هي موضوع لاحتفالهم دون أن تكون عنوان لسانهم ولا علامة إنجازهم… إذ لا إنجاز للعرب غير إراقة الدماء واغتيال المعاني.. وليتهم كانوا مثل أسلافهم تحاربوا في أيّامهم وتركوا لنا ذكرها نستمتع بحسن البيان العربيّ المبين منها.. عرب زماننا اقتتلوا ولم تكن لهم من فصاحة غير فصاحة الدماء.. يسفكونها ولا لسان لوصفها…

4. نحن نتعلّم اللغة العربيّة في المدرسة مثلما نتعلّم اللغات الأخرى.. ولا فرق.. وإن كان فرقٌ فلصالح الأخريات لا لصالحها.. نتعلّم العربيّة وقليلون هم عشّاقها.. أتحدّث عن عشّاقها لا عن المتاجرين بها وآكلي الخبز بها.. والعربية ثقيلة على أبنائنا ولا يرون جدوى لتعلّمها أصلا.. وهم محقّون في رغبتهم عنها وانصرافهم إلى سواها… لأنّها عبء ثقيل عليهم عند التعلّم وخارج حاجاتهم عند مزاولة حياتهم.. وكلّما تقدّم بهم العمر زال انفصالهم عنها.. وزادت غربتها بينهم…

5. جميل أن نحتفل بيوم اللغة العربيّة العالميّ.. وأجمل من الاحتفال أن يتكلّم زماننا اللغة العربيّة.. يتكلّمها إنجازا نافعا للناس.. ويتكلّمها وصفًا لذلك الإنجاز النافع.. ولن تتكلّم الأرضُ اللغةَ العربيّةَ ما لم ينتفض هذا الجسد العربيّ الكسيح ويستردّ عافية غادرته فأخلد إلى النوم دونها…

لن تعانق العربية الزمان ما لم يتحرّر الإنسان من كوابحه ويخرج من قمقم حُشر فيه حشرا أصابه بخدَر جعله ملتفتا إلى وراء لن يعود أو مشرئبّ إلى مستقبل لا يُبلَغُ…

رحم الله محمود درويش
“سبايا نحن في هذا الزمان الرخو”

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock