نور الدين الغيلوفي
وصل إلى الرئاسة بالدستور وصار رئيسا بما نصّ عليه من نظام سياسيّ.. وأقسم على احترام كلّ ذلك تحت قبّة البرلمان يوم تنصيبه رئيسا للجمهوريّة.. وعلى أن يكون رئيسا للتونسيّين كلِّ التونسيين.. نسائهم ورجالهم.. أسودهم وأبيضهم.. فقيرهم وغنيّهم.. صغيرهم وكبيرهم.. مسيئِهم ومحسنِهم.. فاستبشر الناس بطلتّته ومدحوا طلعتَهُ…
ثمّ دخل في غيبته.. وانتظرنا حتّى خرج علينا في 17 ديسمبر يوم الذكرى التاسعة لاندلاع الثورة في مدينة سيدي بوزيد المرابطة.. خرج في زينته.. بخطبة عصماء بدا منها مجرّد نسخة باهتة من العقيد الراحل معمّر القذّافي.. يقود ناقته في الصحراء وحيدا عاريا إلّا من شعب يصرخ بمطالبه فيردّد صوته الأجشّ بعبارة “الشعب يريد.. ويعرف ماذا يريد.. يكفي أن نسنده بالترسانة القانونيّة اللازمة حتّى يُنْفِذَ إرادته”.. وبدا الآخرون كلُّ الآخرين أشرارا فجّارا يتآمرون في الغرف المظلمة على الرئيس المبعوث من السماء.. وبدا هو “فايق بيهم واحدا واحدا يعرفهم بأسمائهم”.. يتوعّدهم بأن يزلزل الأرض من تحت أقدامهم…
خطاب شعبويّ فاشي يحاكي خطابات موسوليني وهتلر وستالين ومعمّر القذّافي مجتمعين.. بلسان عربيّ مبين…
سيّدي الرئيس…
أنا مواطن تونسيّ بسيط.. لا أعرف التآمر ولم أحضر في غرفة مغلقة.. ولا أحبّ الظلام ولا أتقن الحياكة فيه.. ولم أر شيئا من القوى الميتافيزيقيّة التي تحاربك في السرّ والعلن… وتهدّد مشروعك الربّانيّ بالخسف والنسف.. لا أعلم من ذلك شيئا.. ولكنّني لا يقنعني ما تقول ولا أرضى بأن ينظر غيري إلى العالَم لي ولو كان رئيسا للجمهوريّة…
أنا أنظر بنفسي لنفسي…
وأهتدي بعقلي…
لا تعجبني عربيتك رغم عشقي للغة العربية الذي شببتُ عليه ووخط رأسي عليه المشيبُ…
لحنُك بها كثير يزعج سمعي ولا يغري للحديث بها أحدا…
لا أؤمن بمشروعك الهلاميّ ولا يعنيني منه شيء.. ولا أراك رئيسا إلّا متى لزمت مربَّعَك الذي رسمه الدستور لك.. لم ألمس فيك عبقريّة.. ولا أرى فيك زعيما.. ولستُ أحبّ الزعماء.. إذ لا زعيم عندي غير هذا الشعب.. على علّاته.. بما فيه برهان بسيّس وعبير موسي… والشعب انتخبك، وأنا انتخبتُك، لتكون رئيسا تساعدنا من موقعك على تجاوز أعطابنا وحلّ مشاكلنا من الموقع الذي ضبطه لك الدستور.. ولتصلح ذات بيننا لا لتزيدنا تقسيما وتهشيما…
مشروعك اكْتُبْه في كتاب وأَمْلِه على من شئت من صفوتك وبِعْهُ لمستحقّيه من الجهات التي تغويها المدن الفاضلة التي تبشّر بها.. نحن نريد إصلاح دولتنا من عندنا وحسب فهمنا وفق إرادتنا.. ولا نريد دولة تقوم على أنقاضنا…
سيّدي الرئيس…
أنا عشت أكره القذّافي، رحمه الله، لأنّه كان يحتقر شعبه ويهدر وقته في خطابات جوفاء.. ولأنّه جعل من الشعب الليبيّ العظيم موضوع سخرية الشعوب المجاورة له.. ولا أريد لبلادي أن تضيع كما ضاعت ليبيا من قبل.. تاهت في الهذيان نيّفًا وأربعين سنة تحت شعار الجماهيريّة الشعبية الاشتراكية العظمى.. ولم تجن من ذلك غير الخداع…