دولة الأحمقين

أبو يعرب المرزوقي

قبل الكلام على دولة الأحمقين أعني دولة

بعدما ما سمعت تعليل زعيميهما

فلأذكر بما قلته البارحة عن دولة الأعمشين مع توضيح اختيار صفة الأعمشين.

وقبل هذا القبل اكتفي بملاحظة مفادها أن كلامي على:

لا علاقة له بتكوين الحكومة التي:

حتى قبل الإعلان الرسمي على تشكيلتها لأنها لن تكون إلا غاية الفشل المطلق.

فهي ستكون علامة على عدم فهم ما يجري حقا:

“ترقيعة” هي للتغطية على فشل محقق للحلف بين الشيخ والشاهد
ما لم تحصل بداية جديدة تحرر البلاد من الظاهرتين اللتين قد توصلان البلد إلى ما هو أسوأ مما كانت عليه في زمن ابن علي:

ولن أطيل الكلام في هذه الملاحظة.
فقد بينت مضمونها في ما كتبته اليوم الثاني لوفاة السبسي باعتباره بداية جديدة لمجريات الاحداث.
حاولت رسم معالمها في ما كتبت بعده وخاصة بعد الانتخابات.
وآمل أن يتدبر كل من يعنى بمآل الثورة هذه المجريات التي اعتبر الكلام على تشكيل حكومة تجمع “الكفاءات المستقلة” من الضحك على الشعب:
فالداء استفحل بدرجة لم يعد الخروج منه ممكنا من دون التوقف عن إخفاء الحقيقة التي تعني أن “الدولة” لم يعد لها وجود أصلا لأن كل القوى السياسية صارت واجهات:

《التذكير بما أعنيه بدولة الأعمشين》

فالعمش هو ضعف البصر أو الرؤية نصف العمياء.
بمعنى أن الأعمشين اللذين قصدتهما لم يفقدا البصر بالكلية.
بل بقي لهما شيء منه.
وقصدي أنهما من ثم لم يصلا إلى ما يتجاوزه إلى البصيرة لرؤية قوانين ما يرى بالبصر (مثل الأوضاع السياسية وشروطها الفعلية التي هي من مدارك الحواس والبصر أولا) لأن البصيرة لرؤية ما لا حاجة للبصر فيه ممكنة لفاقده (مثل حدس الوجدانيات).

فهما يتوهمان أن تونس تجاوزت القدرة على تحرير ذاتها.
فصارت قادرة على قيادة العالم وتبني مشروع يزعمان به تحرير الإنسانية كلها من شيء:

يريدان تجاوز الديموقراطية التمثيلية بحل الديموقراطية المباشرة للتخلص من عطبها في البلدان التي صارت من ثقافتها.
ويحاول بعض مفكريها وسياسييها تحسين فاعليتها دون النكوص بها مثلهما إلى الأناركية أو إلى السوفيات أو إلى لجان القذافي الشعبية.

وقد يتهمني البعض بأني أتهم النوايا في كلامي على الرجلين.
لكني لست الوحيد الذي فهم هذا الفهم (حتى وإن كنت ربما الأسبق).
تصريحات الأعمشين المتفرقة أو أحيانا تصريحات بعض المطبلين لمشروعهما.
وطبعا فاللقاء بينهما فيه تداخل بين مشروعين متكاملين نراهما جاريين في المشرق الكبير بين إيران خامنائي وروسيا بوتين.
ويمكن أن يتمددا إلى المغرب الكبير إذ حضور روسيا العلني في ليبيا وفي الجزائر وحضور إيران الخفي في المغرب كله لا ينكره إلا الأعمى بالكلية.

فكلنا يرى دور روسيا في ليبيا.
وكلنا يعلم أنه سابق في الجزائر وأن شكله الجديد قد يختلف جوهريا عن شكله القديم في عهد الاتحاد السوفياتي.
ولعل المصدرين يتصوران اختراق تونس في المتناول لجعلها تؤدي دور لبنان:
موطئ قدم في استراتيجية التمدد في الإقليم كله.

ولا أحد ينكر أن سقوط السوفيات لم ينه طموح روسيا في العودة للمشاركة في السباق بين القوى الاستعمارية في تنافسها على تقاسم الأقاليم التي ليس لأهلها القدرة على الحماية الذاتية.
لكن للقاء بينهما علة أعمق لعلها تعود إلى اللقاء بين:

  1. الثيوقراطيا العلنية في إيران لدى مافيات الثيوقراطيا التي تدعي الإيمان.
  2. والثيوقراطيا الضمنية في روسيا لدى مافيات الثيوقراطيا التي تدعي الإلحاد.

واللقاء بين النوعين من “الثيوقراطيا” (“ثيوقراطيا مؤمنة” و”ثيوقراطيا ملحدة”) قد شرحت وجاهته في كلامي على بنية علم الكلام الجديد الذي رد إليه هيجل وماركس الفلسفة التي طبعنت التاريخ ونفت ما يتعالى عليه.
وهي بنية علم الكلام الجديد الذي بدعواه تأليه الإنسان جعله مجرد إداة توحش الدولة الفاشية يمينية كانت أو يسارية.
فالدولة صارت ذات شكل فرعوني:

بدعوى تحقيقهما بالعنف الثوري

وقد تبناه بعض الإسلاميين تحت مسمى “التدافع” في خلط بينه وبين ما ذكره القرآن من “دفع الله الناس بعضهم ببعض” تحريفا لدلالته العميقة حيث إن لله دورا في التغير الذي ليس ثمرة تدافع قوى عمياء مثل المادية الجدلية.

فأحد الأعمشين يزعم تطوير الفكر الماركسي بما يشبه تأويل جديد للينينية محررة من فاشية ستالين لأنها ملونة بفاشية الملالي التي يستمدها من لقائه بالأعمش الثاني.
والأعمش الثاني يزعم تطوير الفكر الإسلامي بما يشبه تأويل جديد لما يسمى بعصر الرسول محررا من فاشية معاوية أعني بالذات كل مزاعم الباطنية التي تكفر حتى الراشدين بالثرثرة حول العدل والطهرية المطلقين.

وهذه الثرثرة تخفي ما نراه من استبداد وفساد مطلقين في نظام المافيات الدينية سواء كانت شيعية أو سنية إسلامية أو يهودية او مسيحية أو بوذية عندما تعتقد أن الدين يبرر كل الجرائم باسم غاياته.

وهو بالذات الموقف المشترك بين الثيوقراطيتين

فالإرهاب الذي ينسب إلى الدين في ذاته كذبة:

وهي كذبة علتها الخلط القصدي بين الدين وتوظيفه في نقيض غاياته بجعله أداة حكم مافياوي.

وتاريخ الإسلام يثبت أن مصدر الإرهاب الحقيقي هو:

▪︎الباطنية المطلقة (القرامطة والحشاشيون)
▪︎والظاهرية المطلقة (الداعشية التي هي طارئ جديد لم تعرفه السنة سابقا)

وهما من طبيعة واحدة.
بل إن الأولى التي هي أذكى هي التي مررته إلى الثانية:

《الكلام في دولة الأحمقين》

أمر الآن إلى دولة الأحمقين.
ليس عسيرا اثبات ذلك انطلاقا مما يقولان لتعليل موقفهما من المشاركة في الحكم مع الإسلاميين بوصفهما ناطقين أو زعيمين باسم:

ولأبدأ فأقول إن الحكومة التي هي بصدد التكوين لم يعد بالإمكان نسبتها إلى المرجعية الإسلامية في شيء حتى وإن نسب الدور الغالب عليها إلى زعامة نهضوية أشك في تمثيلها حقا لقاعدة النهضة عامة وشبابها خاصة.

فيمكن لحزب أن يكون ذا مرجعية إسلامية رسميا.
لكنه لا يطبق رؤية إسلامية

إذا صار غاية في حد ذاته ليس له أفق يحقق غايات الآمة بعيدة المدى بل هو يراكم العقبات ضدها.

وفي الحقيقة فإني لا أعتقد أنه يوجد حاليا حزب إسلامي يطبق شيئا من هذا النوع وله استراتيجية تبني بمنطق الآجل الذي لا يلغي العاجل.
لأنها جميعا تعمل بمنطق العاجل الذي ينتهي إلى منع الآجل.
أعني الغايات الكبرى لاستعادة الأمة لدورها الكوني.

فهم مترددون بين خرافتين نفاهما الغزالي وابن تيمية وابن خلدون قبلي ولا ادعي في ذلك أدنى سبق:

فكل سياسة وكل دولة لا بد لها من استعمال أصلين هما الشرعية والشوكة مع تفاوت في دورهما ونسبه بحسب الظرفية السياسية وبمقتضى الحاجة الراجحة لهذه أو لتلك:

ومن ثم فإني سأطبق ما يقتضيه تجاوز هذين الخرافتين للحكم على تعليل هذين الأحمقين.

وابدأ بمن يرفض الحكم مع الإسلاميين لأنهم فاسدون. وسأقبل دعواه المضاعفة جدلا:

وحينها ينبغي أن استنتج أنه لن يحكم أبدا لا معهم ولا مع غيرهم.
فالواقع التونسي وأعتقد كل واقع سياسي في العالم يثبت أن أحد الأمرين التاليين:

  1. فإما أن الإسلاميين فاسدون لكن غيرهم لا يقل عنهم فسادا على الأقل إن لم يكن أكثر منهم فسادا.
  2. أو أنه ينوي القضاء على كل الفاسدين سواء كانوا إسلاميين أو غير اسلاميين وهو أطهر الطاهرين وأصلح الصالحين.

ولا يمكن أن يقول ذلك إلا أحمق لسبب بسيط وهو أن حزيبه بمثل هذه الحجة ليس له قوة كافية.
ولن يصبح ذا قوة كافية للمشاركة في أي حكم.
فالأحزاب الأخرى على ما فيها ما يزال لزعمائها بعض من العقل يجعلها لا تؤمن بأن السياسة تخلو من الفساد بالطبع خلوا مطلقا.
بل الحكمة السياسية تقتضي محاولة تغليب الصلاح على الفساد كالحال في كل شأن إنساني.

والحصيلة هي أن هذا الأحمق مأمور وليس صاحب قرار حر.
فموقفه دليل جهل بأن استئصال الإسلاميين الذي هو غاية شرطه حتى لو فرضناه قادرا عليه لن يزيل الفساد في العمل السياسي.
وإذن فهو يحلم بأن يبقى وحده في تونس لحكمها.
وهذا هو جوهر الاستبداد الذي هو مصدر كل فساد ممكن:
يعني أنه يريد أن يشترط للحكم نظاما يكون فيه هو وزوجته مثل ابن علي وليلى.

وفي الحقيقة كلما تذكرت بعض:

كنت ألاحظ هذا الغلو و”التفييش” المرضي الذي لا يمكن فهمه إلا بوصفه علامة على الحمق المطلق.
وكنت أعتبر ذلك من آثار المرزوقي إذ هو من أعطاهم هذه المنزلة ولعلهما كانا ينافسانه في انتفاخ “حب” الظهور المبالغ فيه.

ولا يمكن أن يكونا أحمقين بمعنى عديمي الذكاء عامة بل بالمعنى السياسي للحكمة.
فهما لا يفهمان أن سلوكهما لا يصدقه غيرهما إلا إذا صدقا من وعدهم بإيصالهم إلى نفس المنزلة التي وصل إليها ابن علي وليلى.

لم يفهما أن الربيع العربي جعل ذلك أمرا ممتنعا.
لم يعد ممكنا في أي بلد عربي بما في ذلك في الخليج لأن الربيع قضى على كل إمكانية لمثله.
شعوب الإقليم خرجت من الاستثناء التاريخي الذي سماه ابن خلدون “فساد معاني الإنسانية” أي الاستسلام للاستبداد والفساد الذين هما عين ممثليه لان كثرة الكلام على الحرب عليهما هو السبيل لإطلاقهما.

وموقفي هذا هو الموقف الذي لم يفهمه كل من كان يلومني على موقفي من المرزوقي ومن الثورجيين الذين يتكلمون على إقصاء نخبة النظام السابق والمحاكمة قبل المصالحة إلخ..
وقد كنت حتى ضد خرافة تطهير الماضي لبناء المستقبل:
كل محاسبة للماضي تجعله هم الحاضر وعائق المستقبل.

والحل هو قلب الصفحة والالتفات إلى المستقبل تماما كما فعل الرسول الخاتم.
كنت ولا زلت أرى أن الخيار الوحيد الممكن هو إما الإصلاح المتدرج في ثورة سلمية أو الحرب الاهلية.
والحرب الأهلية أبشع استبداد وفساد ممكنين.
وقد كنت أقول لمن يواصلون الحرب على بورقيبة أن موقفهم حمق سياسي لأنه هو الذي سيعيد كل الحرب الأهلية التي عاشها الحزب القديم والحزب الجديد في الحركة الوطنية دون أن نحقق شيئا مما طلبته ثورة الحرية والكرامة ودون أن يقدمنا في طريق استكمال حرب التحرير.

أمر الآن إلى الأحمق الثاني.
كيف يمكن لمن يؤيد بشار وحفتر والسيسي ويعبد القذافي وعبد الناصر أن يكون قوميا في حين أن من قضى على معنى العروبة هو من:

فلا أحد احرص على بقاء بشار حاليا وعلى بقاء القذافي وعبد الناصر سابقا أكثر من الصهيونية.
فبهم تحمي نفسها فعليا لأن الأقوال لا تغير التاريخ.
هي تحكم عليهم بالأفعال التي تقع معها تحت الطاولة وليس بالاقوال التي هي للاستهلاك المحلي.
وقد برهن القذافي على ذلك لما ثار شعبه:
فهل تنسون بمن استنجد؟

كيف يمكن أن يزعم أحد أنه قومي عربي وينحاز لمن يحتل العراق وسوريا ولبنان واليمن ولا يخفي ذلك بل يتفاخر به باعتباره استردادا لامبراطورية فارس التي قضى عليها الإسلام بجيش عربي بحق لم تكن العروبة فيه عنصرية ضد الأقليات بل كانت من أجل جعل البشر يعبدون رب العباد بدل العباد؟

واغرب ما يعجب له المرء هو أن ما يشترك في الأعمشان لا يختلف عما يشترك فيه الاحمقان إلا بنسبة محل الصفات وعمقها:
فالأعمشان يزعمان قيادة ثورة كونية وهو موقف يصدق عليه المثل التونسي “باش تنفخ النار يا بو شرمة”.
فلا أحد منهما له ما يدعيه فضلا عن وزن تونس الذي لا يجهله إلى غبي:
بلد متسول في الرعاية والحماية بسبب حمق نخبه السياسية التي “تتكتك بتجاهل الآجل والغرق في العاجل.
فلا لينين تونس الأعمش فيلسوف تونس مثل لينين روسيا القيصرية علما ونضالا.
لم نسمع أنه صاحب نظريات وعلم أو نضال مثل الأول بدليل هربه لما وصل من كان جلهم صبابا له.
ولا الأعمش ولي تونس الفقيه مثل ولي فقيه إيران الصفوية علما أو نضالا.
وتونس ليست روسيا حتى الحالية
وتونس ليست إيران حتى الحالية.

الجهل أو تجاهل حجمهما وحجم تونس يفيد أنهما مصابان بوهم العظمة في الأذهان ويثبتانه بتخريفهما في الأعيان.

ومثلهما الأحمقان:
فانتفاخ أوداجهما والعنتزة ونفخ الصدر وطول اللسان دليل خلل نفسي لا يخفى عن أي إنسان.
حزيبان لا يمثلان شيئا يذكر يزعمان ما مفاده أنهما ينتظران فناء كل القوى السياسية حتى يحكما وحدهما.
ما يعني الحلم باستئصال كل القوى السياسية الأخرى.
فحجة الفساد المزعومة لا تنطبق على الإسلاميين وحدهم حتى لو سلمنا باتهامهم بها.
وفي الحقيقة هما مستعدان للحكم مع النظام القديم الذي لا أحد تجاوزه أو يمكن أن يتجاوزه في الاستبداد والفساد اللذين هما حاليا نتائج ما كونه من مافيات وخاصة في عهد بن علي وزوجته.
ولن يسمح الشعب التونسي بابن علي ثان وليلاه.

وهو ما يعني أن تمنعهما:

ولا يمكن أن يكون موقفهم مقصورا على استعمال الإسلام في السياسة.
فإيران والإمارات كلتاهما تستعمله وهما اللتان تأمران فتطاعان في كل حرب على تونس حاليا.
وحتى إسرائيل وأمريكا وروسيا فإنها ثلاثتها تستعمل الدين في السياسة:

لماذا هم لا يحاربون إلا دور الإسلام في السياسة والحكم؟
ليس لأنه دين فحسب وإلا لكان الموقف من كل دين.
إنما الحرب عليه (وهي مفهومة من الغرب الاستعماري) لأنه دين العزة والكرامة للإنسان عامة ليس لأسرة الله المختارة وحدها (إيران) ولا لشعب الله المختار وحده (إسرائيل). والبقية مثلهما.

والسلام.

Exit mobile version