مقالات

دولة الأعمشين

أبو يعرب المرزوقي

ما نسميه “دولة تونسية” الآن هو “عهد الحماية الثاني”. فالاستقلال نقلنا من الحماية الاولى لسنة 1881 إلى الثانية سنة 1957 فأضافت التبعية الثقافية إلى التبعية الاقتصادية لتتم الحماية السياسية فتصبح مطلقة.
وإطلاقها هو ترسيخ التبعية السياسية لتنغرس في الأذهان انغراسها في الأعيان الذي تمثله بالتبعية الاقتصادية.
وهذا هو التعريف الجامع المانع لما يسمى عهد الحماية الثاني الذي يسمى في الأوراق الرسمية استقلالا.

ولما حصلت ثورة الحرية والكرامة تبين ذلك للجميع وبدأ الشعب وخاصة الشباب الواعي يفهم وإن بتدريج أنه لا حرية ولا كرامة من دون الشروط التالية:

  1. استكمال التحرير من التبعية الاقتصادية ورمزه دعوة استرداد ثروات البلاد.
  2. استكمال التحرير من التبعية الثقافية ورمزه التحرر من الفرنكفونية.
  3. حتى نتحرر من التبعية السياسية ورمزه حرية الاختيار الشعبي دون وصاية.
  4. فنسعى بإرادة الإنسان المتحرر من هذه التبعيات ورمزه عدم الخوف من الابتزاز بالمساعدات.
  5. تحقيق شروط الإنسان الكريم الذي يحقق شروط السيادة ورمزه عدم البقاء عالة على الغير.

وتلك هي الشروط التي كنا نتصور أنها رهان الانتقال الديموقراطي الذي سيمكن من التعبير الفعلي على إرادة الجماعة الحرة التي تختار من يمثلها لتحقيق هذه الغايات الثلاث ويدرك أنها لا تتم من دون ثورة التحرير الاقتصادي والثقافي لتحقيق شروط السيادة السياسة.

لكن الانتخابات الأخيرة جعلت الانتقال الديموقراطي يصبح في الميزان.

والعلة ليس ما نشهده من خلافات في المجلس النيابي ولا حتى تفتت الأحزاب ولا حتى ضعفها.
فهذا طبيعي جدا لأننا في مرحلة التحرر من علل هذه الأعراض التي تحدث غالبا بعد كل انتقال من الاستبداد والفساد إلى مراحل بناء دولة المواطنين الأحرار منهما.
وذلك هو معنى المخاض الذي يسمى الانتقال الديمقراطي.

العلة هي ما يرمز إليه العنوان: الأعمشان.
فأما الأعمش الاول فهو من يتكلم على الديموقراطية المباشرة في مقابل الديموقراطية التمثيلية بعد أن كان ممن يتكلمون على الديموقراطية الشعبية بوصفه ماركسيا في مقابل الديموقراطية البرجوازية.
وواضح أن الكلام على الديموقراطية المباشرة سيكون من جنس الكلام على الديموقراطية الشعبية:
الهدف هو النقلة من التمثيل بالمعنى السياسي إلى التمثيل بالمعنى المسرحي تماما كما حدث في المرة السابقة من الشعبية التي بشر بها لينين إلى الفاشية التي حققها ستالين.
ورغم أن لقب لينين للأعمش الأول في تونس من الصدف الدالة على حمق طلبة تونس الذين لقبوه به رغم أنه لا يساوي شعرة من لينين الحقيقي فإن الحصيلة ستكون واحدة أي إنه يعد لستالين جديد في تونس لن يحقق المباشرة لأنه سينهي الديموقراطية.

ونهاية الديموقراطية هي ستكون بتنصيب الأعمش الثاني الذي سيكون طرطورا باسم مجتمع القانون.
وهو أعمش لأن القانون في أي مجتمع ليس له أدنى فاعلية بذاته بل بما ورائه من قوى سياسية أي حاكمة ومعارضة.
وهو يريد أن يلغيها.
فماذا سيبقى؟
ستبقى خرافة الديموقراطية المباشرة أعني المجالسية أو السوفيات أو اللجان الشعبية.
وبلغة أي دار بالقانون الدستوري هذا يسمى حكم الغوغاء.
عذرا نسيت أن الأعمش الثاني نسبته إلى فلسفة القانون الوضعي أو حتى الشرعي هي عين نسبة الأعمش الأول إلى فلسفة الاجتماع الشيوعي أو الشيعي.

فماذا أعني بالأعمشين؟

  • الأعمش في فلسفة القانون وفلسفة الفقه.
  • والأعمش في فلسفة الشيوعية وفي فلسفة التشيع.

ولأبدأ بالثاني.
فالشيوعية حتى وإن بشرت بنهاية الدولة غاية لتحقيق الشيوعية في النظر فإنها في العمل أثبتت العكس.
هي ضخمتها إلى حد التخمة لأنها في الحقيقة تبينت استعادة للنظام الكنسي في القرون الوسطى حتى وإن كان لائكيا لأن الحزب عوضها وكون رعاة “بباسات” هم “صبابة” النظام الدنيوي مثل الباباست في الكنسية الذين هم “صبابة” النظام الاخروي: نظام الفاشية المخابراتية التي من جنس الكي-جي-بي.
وذلك يتماشى مع التشيع المبني على المرجعيات والحشد الشعبي أو حرس الثورة.
وهم لا يختلفون عن “صبابة” الكي-جي-بي للاستبداد الستاليني المطلق.
وليس بالصدفة أن كان بوتين صديق الملالي.

ولأمر إلى الأول.
فالتدين الزائف والثورة في الستين بعد التعامل مع نظام ابن علي والسكوت على قتل المئات وحبس عشرات الألاف ونفي ما يقرب منها وبعد جعل البلاد مرتعا للمافيات والمخدرات وتهريب الثروات جاء الأعمش الثاني مع الأعمش الأول لتأسيس مجتمع القانون من دون أحزاب لا حاكمة ولا معارضة.
يعني حكم “الإمام” المعصوم الذي يدعي الطهرية والنظافة و”الفصاحة” الغبية التي لا تتجاوز تكرار جمل أكل عليها الدهر وشرب في بلد يحتاج إلى الأفعال في إطار القانون بدلا من إلغاء شرط شروط قوة القانون وهي ما يسنده من قوى سياسية أي الأحزاب المعبرة عن إرادة الجماعة بعد أن تترشد من خلال الممارسة الديموقراطية التي ستفرض الاستجابة لمطالب الشعب أو الانقراض.
وذلك هو معنى الانتقال الديموقراطي.
وقد بدأ المسار ولن نقبل أن يوقفه هذان الأعمشان.

فالمافيات افتضحت والأحزاب التي تعادي الشروط الخمسة التي ذكرتها بدأت تتوارى.
وسيتوارى ما بقي منها بإذن الله وبالوعي الشعبي وليس بخرافة الأعمش الباطني المتمركس أو الأعمش الظاهر المتطهر للخداع.

والسلام.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock