الخال عمار جماعي
الفاتحة…
لا شيء في “العاصمة”… إلاّ “مقهى النّصراوي” تستقبلني قهوتها كجنرال متقاعد.
لمّا انفتحت لي سماء الحريّة في جانفي العظيم عمّدتها باعتصام القصبة، وحملت -في آخر هجرات البدو- خيمتي ونصبت أوتادها أمام الوزارة الأولى ! كانت شامخة كذات العماد وأنا أجوس بين الجموع الغاضبة وأشير إليها… لم أعلم إلاّ بعد فوات الأوان أنّ الحال قد صار كمن يربط خيوط حذائه، لابدّ له أن “يطبّس” للعابرين في الدولة ولم أكن كذلك ولا ينبغي لي !
لم تزعجني الصحراء أبدا… تزعجني الواجهات البلّورية ورائحة الإسمنت والإسفلت فأنا مولود في الريح وأوّل ما تنفّست عطر الخزامى القادمة من “جبل العيدودي” الذي شهد أوّل طلقة بندقيّة مقاومة حين كان “الزّعيم” يفاوض ! لا… ما أزعجنى أبناء عمومتي فقد كنّا نتنافس في الشعر والخيل وحبّ الأعين النُّجلِ… يؤذيني دقّ كعب النّساء في أذني وطرشقة العلكة والضحكة الداعرة في أفواه تتبجّح بالقول الفاحش فقد نشأت في حجر نساء يرفعن طرف الخيمة حتى لا ينحني إبن عمّهنّ ليدخل خباءها !
كأنّ النّاس هنا صمّ عن الآخرين، حتى لتشعر أنّك وحدك كبندقيّة صدئة أو كأنّك معنى شريد في قصيدة مضطربة الرواية… اليُتم هو أن تكون كذلك !
في “مقهى النّصراوي” الذي يمنحك قهوة معقولة الثّمن بدأت أكتب حتى أصغي لنفسي أو لعلّني أنجو بها من حالة الصّمم… والأرجح أنّي أصفّي حسابا متخلّدا بذمّة هذا البلد !
لم يعش أحد تجربة التجنيد القسري أواخر العهد البورقيبي بـ”محتشد رجيم معتوق” مثلما عشتها…
(قيد الطّبع)
“الخال عمار الجماعي”