ائتلاف الكرامة و”دولة” اتحاد الشغل : في نشوة الوهم الخالد

نور الدين الختروشي

يتابع الرأي العام باهتمام المناكفات بين رموز ائتلاف الكرامة وقيادات المنظمة الشغيلة في زمن سياسي حساس ودقيق ومفتوح على مجاهيل مزعجه.
سنحاول في هذه المقاربة أن نرصد جذور العلاقة المستشكلة بين المنظمة الشغيلة ومجتمع الحكم لنعيد طرح السؤال حول توقيت هذه المعركة ودلالاتها وتأثيرها على تطور المشهد.

كان من الطبيعي بعد ثورة أدعت القطع مع النظام القديم، ان يراجع التونسيون إرث الدولة النوفمبرية التي كانت في عمومها امتدادا للدولة البورقيبية. وكان اتحاد الشغل كهيكل وتاريخ وأداء في مقدمة العناوين التي وضعت على صراط المراجعه. مراجعة حجمها وموقعها ودورها، وقد انحصرت خلاصات الموقف من المنظمة الشغيلة بين متحمس للتمسك بها وتعزيز دورها الوطني، والذي توزع بين النضالية زمن الاستعمار، وحفظ التوازن مع الحزب الحاكم ومواجهة تغول الدولة زمن الاستقلال، وبين مشكك في هذا الدور بمستند قابلية المنظمة المستمرة للتدجين والتواطئ بالصمت مع انحرافات الدولة طيلة الخمسينية السابقة.

وقد ذهب هذا الفريق بعيدا في ترذيل اتحاد الشغل وتحميله جزء يكبر أو يصغر من المسؤولية في التمكين لدولة البوليس طيلة الحكم النوفمبري، وكانت محاولات تأسيس منظمات نقابية موازية التعبير الاقصى على تجريم المنظمة الشغيلة بجرد الماضي وحساب الحاضر لكن مع ضعف المحتوى الثوري والجذرية في التعاطي مع الموجود السياسي بعد الثورة. سرعان ما استعادت المنظمة الشغيلة موقعها َودورها في قلب المشهد العام.
كان منتظرا بعد الثورة أن تتوضح خطوط الفصل والتماس بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، وأن ترسم حدود الفصل والوصل بالصيغة التي يستعيد فيها المجتمع الحزبي دوره الوظيفي كمجتمع حكم معني بإدارة الشأن العام، والمجتمع المدني كفضاء رقابة للسياسي وتقويم وتجويد لدوره ووظيفته، مع الحفاظ على مسافة تتيح له التمسك باستقلاليته عن أجندة الفضاء الحزبي، قطعا مع تقاليد زمن الاستبداد، والتي تحمل فيها المدني وزر السياسي وتحول المدني مع تأميم الفضاء السياسي بقوة العنف الرسمي إلى ملجأ لتونس المناضلة والمعارضة للنظامين البورقيبي و النوفمبري. وكان اتحاد الشغل من أهم “المظلات” التي استظل بها السياسي لحماية وجوده الجسدي اولا، تمرير أجندته النضالية من ناحية اخرى.
لقد كان فائض التسيس الذي ميز المجتمع المدني زمن الاستبداد يجد مبرراته في غياب الفضاء السياسي، الذي كانت تحتكره السلطة، وتضرب بعنف وقسوة كل محاولات الاقتراب منه فضلا عن تحريره من قبضة الحزب الحاكم.

وهكذا رغم حركية المجتمع المدني وحيويته ودوره الوازن في العديد من المحطات للحد من تغول الدولة وحزب الدستور، فقد تطور معطوبا بثقل حضور السياسة بحساباتها ورهاناتها القريبة والبعيدة، وبدى في آخر سنوات الحكم النوفمبري منهكا أخلاقيا وتاريخيا ووظيفيا بتحمل وزر المجتمع السياسي، والقيام على وكالة ثقيلة وغير معلنة عوّض بها غياب وتغييب السياسي المطارد والشريد طيلة العقود الخمسة من عمر دولة الاستقلال.

كان من المفترض مع الزمن السياسي الجديد الذي دشنته الثورة أن يستعيد المجتمع المدني هويته وموقعه ودوره الطبيعي كفضاء بيني يجسد مبدأ الرقابة الأخلاقية على السياسي ويعمق مبدأ التشاركية في ادارة الشأن العام من موقع المبادرة المواطنية المفتوحة والمستقلة عن أجندة السياسي وحساباته المتعلقة بموضوع الحكم.
الا ان منسوب الفوضى الذي عممته مآلات المشهد السياسي قد فاض ليستغرق المجتمع المدني فتداخلت فيه المواقع والأدوار وأصيبت أغلب وحدات المجتمع المدني بداء التسيّس والاصطفاف وراء الاجندات الايديولوجية والسياسية المتهارجة حول موضوع السلطة والتحكم في المصير العام.

لم يشذ الاتحاد العام للشغل عن القاعدة وبرز في العهدة التأسيسية زمن حكم الترويكا كذراع ايديولوجي وسياسي بيد معارضة الترويكا والنهضة تحديدا. وكانت فضيحة الاكثر من ثلاثة آلاف إضراب قطاعي في سنتين، الأكثر تعبيرا عن حجم تورط المنظمة الشغيلة في أجندة المعارضين لحكم الترويكا، مما جعل الأصوات تكثر وتتعالى للتنديد بتغول اتحاد الشغل والتنبيه لدوره التخريبي المكشوف للعملية السياسية ومنجز الثورة ذاته. وقد استغل الاتحاد قوته التنظيمية (الماكينة) والحضور التاريخي ليسارية نقابية متشنجة ومتوجسة من غريمها الأيديولوجي (الإسلاميين) وضعف “المنتجع الحزبي” ليقوم بدور مفصلي في توازنات المشهد السياسي، بل ولينتصب كوسيط وحكم وازن في تحرير السياسة من ممكن انزلاقها إلى دائرة التحارب الأهلي مع نهايات العهدة التأسيسية. وقد نجح اتحاد الشغل يومها في الهروب من زاوية الادانة الاخلاقية والسياسية لدوره المركزي المشبوه في تعطيل قطار التجربة السياسية الواعدة بعيدة الثورة، بل وخرج من الزاوية موشحا بجائزة نوبل للسلام اعترافا بدوره التاريخي الوازن في إنقاذ التجربة من ممكن التهارج العام على ما تسجله مخرجات الحوار الوطني، الذي أشرف عليه وأداره باقتدار حسين العباسي الأمين العام للمنظمة بمعية منظمة الأعراف وعمادة المحامين ومنظمة حقوق الانسان.

صحيح أن المركزية النقابية قد أستعملت المباح نقابيا وغير المباح سياسيا لإسقاط تجربة الترويكا في العهدة التأسيسية، وصحيح أيضا أن نفس تلك القيادة قد قادت باقتدار الحوار الوطني واخرجت البلاد من عنق الزجاجة، وجنبتها ممكن التحارب،.
ولعل مما يعزز هذا الرأي هو وجود قيادات نقابية مؤثرة في مراكز قرار المنظمة قريبة من يسارية مازالت تؤمن أن الاصطفاف السياسي خلف خصوم النهضة يجب ان يبقى من ثوابت استراتيجية المنظمة وأدائها، دون الاكتراث للتضحية بمبدأ استقلالية المنظمة والعمل النقابي، خاصة وان ذاكرة المنظمة طيلة خمسينية الاستقلال تفصح بوضوح على تجاوز واعتداء فاحش ومتكرر على مبدأ استقلالية العمل النقابي.
من هذه الزاوية وعلى قاعدتها أسس ائتلاف الكرامة خطابا انتخابيا حديا وحاسما في المنظمة على أنها “أم الشرور” وتمكن من حصد أكثر من عشرين مقعدا وهو ما يؤشر على أن جزء معتبر من التونسيين يحملون المنظمة الشغيلة مسؤولية ماثلة على مآلات الوضع المأزوم بالبلاد.
خطاب سيف الدين مخلوف وقيادات الائتلاف وان كان يطرب من يشاركه الرأي أن الاتحاد يجب ان يعود الى مربعه النقابي الخالص وان يكف عن التشويش او التأثير في العملية السياسية فإنه وفي ظل الصعوبات التي تواجهها حركة النهضة في تشكيل الحكومة يساهم بهذا القدر او ذاك في عزل النهضة ووضعها في زاوية المواجهة الممكنة بين “دولة الاتحاد” والحكومة القادمة. وبقطع النظر عن الرأي القائل أن الضغط السياسي والنفسي على المنظمة سيخفف على الحكومة القادمة من ضربات مطرقة “دولة الاتحاد” المرعبة لكل حكومة فان دقة اللحظة الوطنية وتعقد مسار تشكيل الحكومة والانتظارية الحائرة المخيمة على المشهد لن يزيدها عنتريات زملاء المخلوفي في ائتلاف الكرامة الا تعقيدا.
فالحرب الكلامية بين رموز الائتلاف وقيادات المنظمة ليست سوى المؤشر على تهارج قادم ستدفع ثمنه البلاد كما ستدفع كلفته السياسية المباشرة حركة النهضة.
فالمعركة التي تبدو مفتوحة ليست سوى غبار كثيف سيعمق ضبابية طريق تونس الجديدة نحو الاستواء على سوق ديمقراطيتنا الفتية واستقرارها.

الرأي العام

Exit mobile version