عندما تولد الآلهة .. وتموت أيضا ..

علي المسعودي

تحتاج الدولة الغاشمة إلى شعب مؤمن عند الطلب حتى يستمرّ كيانها،.. بل إنها هي زيوس نفسه الذي منه تناسلت كل الآلهة !.

السلطة السياسية مهما كانت تسمياتها اليوم، ثيوقراطية كانت أو نورانية، تبقى دائما ذات عقيدة وثنية. فالوثنية هي دين دولة الاستبداد الرسمي الذي تستمدّ منه روحانيتها الخادعة.. وبدونه يستحيل تجميع السلطة وتكثيفها.
لو ضربت في الأرض طولا وعرضا، وتوسطت ميادين العواصم شرقا وغربا لوجدت من أصنام السياسة مثل الحصى، ولصادفك في كل قِبْلَة مجسّم لإله ميّت أو مازال على قيد الحياة !. فتماثيل الزعماء السياسيين هي بعدد مقامات الأولياء !..

•••

لكل حقبة سياسية نصيبها من الآلهة. وفي تونس الديسمبرية، أدركت النخب المهزومة، سدنة كعبة السلطة في كل الأوقات، أنه لا يمكن هزم الديموقراطية الوليدة بدون صناعة أوثان، وأنه لابد من تانيت وبعل حمون في كل مكان، وأن هذا الشعب الذي صبأ عن آلهته وعنهم لن يعود إلى الزريبة إلا بفكر وثني ترسّخه منصّات الإعلام. فصنعوا على عجل صنم مؤسس الدولة الوطنية الذي من معجزاته قتل القمل، وصنعوا صنم الإتحاد أقوى قوة في البلاد.. ثم صنعوا من المرأة المدينية آلهة، ومن الجمهورية الأولى آلهة، ومن الحداثة المشوهة آلهة، ومن التقدّمية الكاذبة آلهة.. فانتشرت عبادة الأوثان، وانسدّت بذلك كل منافذ الفكر الحرّ.
حتى الوطن صنعوا منه وثنا مقدّسا… أن تجعل من معنى المواطنة غير الوطن، فهذا هو معنى الوثن !.
إن كتاب الكبائر في السياسة اليوم أثقل من كل الكتب !.

•••

غير أن الديسمبريين أنفسهم لهم أيضا إلاههم الذي ليس كمثله أحد !. فالانتماء الحزبي أصبح أقرب إلى الانتماء الديني، أو لعله أشدّ وثوقية منه. والزعيم المؤسس هو تقريبا نبيّ مرسل لا ينكر نبوّته إلا رئيس شعبة قديم أو تجمّعي أصيل !..
النخب القديمة لا ترى في الأحزاب أكثر من بيت للكراء، ولهذا قد تنتقل في عام واحد إلى أحزاب شتى تشترك في المواصفات نفسها : تقديس نفس الأوثان !.
أما النخب الجديدة فأحزابها هي معابدها المقدّسة، تحرّم على نفسها تبديلها وتحرّم على غيرها ترذيلها !..
هذه النخب تدين -بعد المالكية- بمذهب مشترك هو الوهابية السياسية. بعضها يدعو إلى الاكتفاء بتقديس الممارسة الديموقراطية على علاتها، والبعض الآخر أقسم أن يهدم كل الأصنام التي يراها في الجانب الآخر من الطيف السياسي.. وهو يريد أن يقضي حتى على شواهد القبور حتى لا تعود أوثان السياسة من جديد !.
وهكذا، استعدنا بطريقة غريبة المقدس السياسي الذي دفنّاه ذات ثورة، وعدنا لصناعة آلهة نستعملها كحراب في مواجهة الخصوم.

•••

ولكن الآلهة التي تصنع تموت أيضا، الآلهة التي يخلقها كلاب الحراسة عمرها أقصر من حياة الساسة…
كل الآلهة التي ينافح عنها أتباعها هذه الأيام هي في طريقها إلى الزوال في ظل ممارسة ديموقراطية سليمة.. وستترك مكانها لفكر سياسي حرّ لا يحدّه أفق من خطوط حمر أو محرّمات.
أما أخطر الأشياء فهي أن تصبح الممارسة الديموقراطية نفسها فوق النقد، وأن تصبح بدورها آلهة للخير، ومذبحا لروحها المتعالية عن كل تعديل !.

•••

إن رحى الديموقراطية اليوم يسمع كل العالم جعجعتها ولكن لا نرى لها طحنا أو طحينا. وإن افتقاد النجاعة يستدعي النقد ابتداء، فإن صمّت الآذان يتحوّل النقد إلى نقض، أي إلى ثورة على هذه المؤسسات المفرغة من معنى المواطنة، والتي تبيع الشعب أوهام الإرادة الممثلة في القصبة وباردو وقرطاج.
إن تلك الجموع السيارة في الطرقات صوب هضبة قرطاج هي جرس إنذار للجميع، وإن الاحتراق القادم ستكون وقوده هذه الجموع، وسيكون وثنه الرئيس المفدى قيس سعيد… ألسنا شعبا في السياسة وثنيا منذ إنشاء الحدود ؟؟
فلننتبه من قادم الأيام، إن دم الوريد قد تسفحه فكرة.. مجرّد فكرة !.

Exit mobile version