أبو يعرب المرزوقي
لست أدري لماذا لا أستطيع أن أتخلص من فكرة لم تغادرني منذ تحلل نظام المرحوم الباجي.
فقد كتبت في اليوم الثاني لوفاته أن كل التصورات التي كانت سارية في حياته لم يعد لها محل من الإعراب.
تونس عادت إلى وضع أسوأ مما كانت عليه قبل الثورة.
فكل ما حاولت تجاوزه بالمنطق الإصلاحي والتوافقي لم ينجح.
وما كان خفيا من دور المافيات الداخلية والاختراقات الخارجية أصبح ماثلا للعيان بعد أن صار مكشوفا ببعديه الداخلي والخارجي في شكل أحزاب تغطي عنها لكنها تستمد قيامها من تمويلها ومن أصواتها الإعلامية البين للجميع.
وقد بدأ تحلل الجبهة التي كونها السبسي وسماها “نداء تونس” منذ أن وصل إلى قرطاج ودام التحلل مدة حكمه وبلغ غاية ما وصل إليه النظام البورقيبي وترديه الابن علوي.
ولم تكن مدة ما يسمى بالثورة إلا مرحلة خروج كل أمراض تونس التي تراكمت خلال هذه العهود الثلاثة فخرجت إلى العلن.
وكنت أتصور أن ما يقرب من العقد الذي مر قد كان يمكن أن يعد نوعا من التطهر الذي يمكن لو تواصل سلميا بنفس إصلاحي طويل معدا لخروج البلاد من الوضع المخيف الذي وصلت إليه فتحقق نقلة نوعية تجعلها بلدا عربيا يبشر بفجر جديد في الإقليم كله.
كذلك كنت أتصور الانتخابات الأخيرة قابلة لأن تمثل تقدما نحو الاستقرار.
لكنها بالعكس صارت نكوصا إلى ما يشبه فوضى المزايدات للأحزاب التي كلنا يعلم ارتهانها الخارجي.
فما حصل تبين في الحقيقة نكوصا إلى ما تقدم على الثورة حتى لو اتخذ شعارات تدعي استكمال التغيير الثوري الذي قد يعيد البلاد إلى أسوأ مما كانت عليه قبل الثورة لأن في الدعوات الثوروية الكثير من خرافات القرون الوسطى التي تجمع بين نوعي الحكم الفاشي سواء كان ذلك بشعارات دينية (ثيوقراطية شيعية) أو بشعارات ماركسية (انثروبوقراطية علمانية).
وكلتاهما في الحقيقة لا تتجاوز الابيسيوقراطية (نظام العجل) التي يغلب عليها معدنه في الخفاء وخواره في الجلاء.
وهي شعارات تعبر عن التخلف الفكري والتحلل الخلقي اللذين يمثلان دين العجل بمعدنه وبخواره سواء كان باسم الله أو باسم الإنسان.
لذلك فقد صرت فعلا شديد الخوف على مستقبل تونس رغم بعدي عن السياسة المباشرة وانشغالي بالأقليم وبالأمة اللذين اعتبر مجرى أحداثهما مؤثرا على تونس وأبعد غورا مما يبدو جاريا في الداخل حتى بت أفرح كل يوم بما أسمعه في لبنان والعراق وخاصة في إيران.
وأفرح أكثر لما أجد البلاد سالمة من الاضطرابات والأخبار السيئة التي تتسارع هذه الأيام بصورة مفجعة.
لكني لا اخفي أني اعتقد منذ وفاة السبسي والانتخابات المبكرة أن تونس مقبلة على وضع شديد الحراجة.
اعتقد أن خيانات عظمى في مهام الدولة الأساسية بصدد الانتساج فيها من “شوشتها” إلى “أخمص قدميها” بل والإفصاح عن أجندات لا تحمد عقباها لأن ما بدأ يتراكم من سحب تلبدت بصورة لا تحمد عقباها.
وما اعلام عبد الوهاب عبد الله الذي ما يزال الفاعل الرئيس في الساحة الإعلامية ولا يتوقف عن صب الزيت على النار إلا من علامات الحمى التي تتصاعد.
وما ذباب الطهورية والنظافة المزيفتين في الصف الهادف إلى تغيير النظام بمليشيات شبابية الذي بدأ ينتأ في التواصل الاجتماعي إلا من علامات التصعيد المقابل.
وهو شباب قد يغرر به سعيا لتكوين مليشيات تحرض علنيا وصراحة بوعود كاذبة ومستحيلة من قبيل إعادة هندسة الدولة وتغيير الدستور وانهاء دور الأحزاب بأفكار بالية مثل السوفيات ولجان القذافي الشعبية ناهيك عن إمكانات تونس المحدودة.
ومن ثم فالصراع بين هذين التطرفين لم يعد خفيا إلا على من فقد البصر وليس البصيرة وحدها.
فالاخبار المتعلقة بالمافيات المسلحة التي تخرج بين الفينة والأخرى تتزايد يوما بعد يوم فضلا عن فقدان الأمن -البراكجات والاغتصابات والعدوان على المواطنين- وكثرة الجرائم بلغت حدا غير مسبوق لكأنه يوجد من يؤجج الفتن بقصد.
وبالتحديد فإن إمكانية أحد شكلي الانقلاب على الدولة والدستور وما يترتب عليهما من خيانة عظمى لم يعودا مستبعدين:
- الشكل الأول باستعمال قوة الدولة أي أجهزة قوتها الشرعية لحماية نظام الدولة.
- الشكل الثاني باستعمال قوة المجتمع أي تحركات الشارع لتغيير نظام الدولة.
فالشكل الأول قد يضطر لاستعمال أجهزة الدولة ليتجنب الثاني وقاية أو للرد عليه علاجا.
وهذا السيناريو يبدو لي غير مستبعد إذا صحت حدوسي وتوقعاتي لمآل ما يجري في تونس منذ وفاة المرحوم السبسي عامة ومنذ ما حصل في الانتخابات من أمور يعسر تفسيرها بسنن التداول الديموقراطي المعتاد.
وسبق لي أن توقعت أن نهاية السبسي وعهده ستكون أخطر عليه وعلى تونس من نهاية بورقيبة وعهده عليه وعلى تونس رغم أن قوسي ابن علي اللتين انتهتا بأمر لم تتحدد بعد معالمه لأن السنوات التسع الماضية تسيطر عليها هذه العهود الثلاثة إذ إن مشاركة بقية القوى السياسية ما تزال رمزية.
ومعنى ذلك أن الانتقال الديموقراطي لم يتحقق منه شيء عدى كتابة النصوص وتقديم الوعود التي لم تغير من واقع الأمر شيئا حتى وإن بدت الحريات وكانها مضمونة خلال هذا الذي يسمى انتقالا ديموقراطيا.
وهو دخان يخفي تفاعلات في العمق أرى مفاعيلها تتلبد وتحركها تدخلات خارجية من كل حدب وصوب فضلا عن كون جل النخب في الأحزاب التي تدعي الثورية ولاؤهم لعادات تلك العهود الثلاثة مقدم على قيم الثورة.
إذ هم ينقسمون بحسب هذه التدخلات ومصادر تمويل أنشطتهم:
- إلى توابع الأحزاب التي في فلك ملالي إيران وأذيالهم العربية.
- وإلى توابع القبائل التي في فلك حاخامات إسرائيل وأذيالهم العربية.
ومعهما توابع الحزب الفرنسي الذي يحالف النوعين لأن مشكله يمس كيانه الداخلي في المتروبول كما تبين الاسلاموفوبيا والتعامل مع المهاجرين والمعارك التي تعم الأقليم ومع مصالحه في تونس والمغرب الكبير وحتى في المشرق.
والشكل الثاني من الانقلاب الممكن هو الانقلاب الذي يستعمل الشارع وهو النموذج الذي تفضله الملالي وتوابعهم من العرب وهو على قدم وساق في جل بلاد الإقليم.
والشكل الأول من الانقلاب الممكن والذي يمكن أن يكون إما استباقا له أو ردا عليه هو الانقلاب الذي قد يضطر لاستعمال قوة الدولة وهو النموذج الذي تفضله الحاخامات وتوابعهم من العرب.
ولهذه العلة فإني لا آخذ محاولات تشكيل الحكومة مأخذ الجد سواء من قبل النهضة مباشرة أو بالوساطة الهادفة للتحييد أو حتى بعد الشهرين من قبل الرئيس مباشرة أو بالوساطة وبنفس المناورات التي فيها تواطؤ بين من يريدون التعفين من أجل غاية في نفس يعقوب.
فكل ذلك مناورات هدفها تحين الفرصة للقيام بأحد النوعين من الانقلاب المتوقعين لأن ما وصلت إليه تونس من التشابك بين ما ظاهره الأحزاب وباطنه مافيات الفساد التي تمولها وتختفي وراءها ليس له حل آخر غير أحد هذين الحلين.
وسأحاول لاحقا التأصيل الذي قد يتأخر في انتظار المزيد من القرائن على هذه الحدوس إثباتا أو نفيا دون إيقاف الانشغال بالبحث في التأسيس النظري لتوصيف الخيانة العظمى على المستويين الخلقي والقانوني وتحديد أحكامها من منطلق شرعي ووضعي.
فالاعداد لتغيير نظام الحكم بالشارع بحجة استكمال الثورة أو حتى الشروع في ثورة عالمية وليس انقلابا قد يوجب تحديد ما يحول دون هذا الخلط بين الثورة والانقلاب الذي هو تغيير الدولة خارج مؤسساتها الدستورية لبيان أنه عندما يكون ضد دولة ذات شرعية ديموقراطية لا يختلف عن الانقلاب المسلح بالجيش حتى لو تم بالتظاهر السلمي المزعوم لأن الشروع فيه بحد ذاته هو خروج عن الشرعية الدستورية في أي بلد ديموقراطي.
وأخيرا أتمنى من كل قلبي أن تكون حدوسي وتوقعاتي في غير محلها رغم أن القرائن التي تؤيدها تتراكم يوما بعد يوم وأني لا يساورني شك في أن الانفجار قد لا يتأخر كثيرا لأن البلاد على حافة الإفلاس المادي بعد أن بلغت غاية الإفلاس الخلقي.
وسأختم هذه المحاولة بتصنيف مبدئي ومؤقت لأنواع الخيانة بدرجاتها الخمسة التي يمكن تعريفها على النحو التالي:
- الخيانة الأصغر وهي خيانة مؤتمن بوصف الائتمان علاقة بين شخصين وغالبا ما يذهب الفكر عند الكلام على الخيانة إلى هذا النوع بين الأفراد.
- الخيانة الصغرى وهي خيانة مؤتمن بين شخص وجماعة خاصة كما يحصل في الجمعيات أو في الشركات التي قد يخونهم المكلف بإدارتها أو حتى من الأعضاء النافذين فيها.
- الخيانة الوسطى وهي خيانة مؤتمن عام في وظيفة الرعاية للدولة وغالبا ما تتعلق بالخدمات الكبرى مثل التربية والاقتصاد والثقافة بتغيير قيم الجماعة في هذه المجالات بصورة تدل على اختراق لحصانة الامة المادية أو الروحية. وهنا يبدأ الفساد بمعناه السياسي إضافة إلى المعنى الخلقي في الحالتين الأوليين.
- الخيانة العظيمة وهي خيانة مؤتمن عام في وظيفة الحماية للدولة وهذه الأخطر وتتعلق بالحماية الداخلية أي القضاء والأمن والحماية الخارجية أي الدبلوماسية والدفاع ويجمع بينها الاستعلام الذي يمكن أن يكون المسؤول عليه أداة اختراق للحصانة الروحية والمادية للجماعة بصورة تخل بالأمن القومي.
- الخيانة الأعظم وهي خيانة الدولة ودستورها وهذه الخيانة هي الأكبر والأعظم وهي التي يمكن أن تشمل كل ما تقدم عليها لأنها تتعلق بأمر لا يحصل إلا في جماعة بلغت أقصى مستويات الفساد الخلقي والمادي وهي الحالة التي أكاد أجزم بأن بلاد العرب عامة قد وصلت إليها.
وإذا لم نتدارك تونس فستلحق بغيرها لأن ما يحصل فيها يكاد يفيد أن التدخلات الأجنبية والمافيات التي “تسيبت” بعد أن غادر قائدها وقائدتها الاعليين صارت في تناحر هو في الحقيقة صورة مصغرة من تناحر التدخلات الأجنبية في شؤون تونس.
ولا يكاد يوجد حزب أو جماعة بمعزل عن هذه التدخلات حتى إن تونس وصلت إلى ما يشبه مرحلة ما قبل الحماية بقليل خاصة ونحن في ما يشبه الكوميسيون المالي من جديد.