هذه الثورة تنسف معنى حزب الله
دلال البزري
العقد السياسي المُبرم في لبنان بين حزب الله وممثلي الطوائف، منذ ثلاثين سنة: أنتم لكم الدولة، بخيراتها، وأنا لي لبنان بمجمله كمكان “حرّ”، أسرح وأمرح فيه تلبية للسياسة الإقليمية الإيرانية. والصيغة الرائجة لهذا العقد: لكم الاقتصاد، ولي سلاحي. طبعاً، هذا العقد كان مقبولاً في بدايته، خصوصاً عندما كان الحزب يقاتل الاحتلال الإسرائيلي. ولكن بعدما انسحب الإسرائيليون من لبنان عام 2000، صدرت إشاراتٌ قوية تسأل كلها عن معنى الإبقاء على هذا السلاح؛ وانتهت هذه المطالبة، مؤقتاً، باغتيال رفيق الحريري، وانسحاب الجيش السوري من لبنان، والبقية المعروفة…
تمكّن الحزب، ليس من الحفاظ على سلاحه وحسب، إنما أيضاً من تزويد نفسه بمزيد من السلاح، كمّاً ونوعاً، ما أهّله لتسخير هذا السلاح في حماية حليفه العضوي، بشار الأسد، من انتفاضةٍ شعبيةٍ كادت تطيحه. كان تقسيماً للعمل، بين من يلتحف بعباءة الشرف و”المقاومة”، وبين من يبحث من دون خجل، عن كيفية استثمار هذين الشرف و”المقاومة” في ميدان السرقة الموصوفة لخيرات لبنان. نهب للدولة بحرية بالغة، سمحت لتراكم ثروات في جيوب رجالاتها، بلغت حدود الخرافة. ولم يحرم حزب الله نفسه، بعد حين، من المشاركة في هذا النهب؛ ولا حرم نفسه، ولا إعلامه معه، من ترف رفع لواء “محاربة الفساد”؛ من دون الانتباه أنه لولا هذا الفساد، لما “نجح” العقد السياسي المبْرم بينه وبين “شركائه في الوطن”.
وكان لهذا العقد السياسي بين الطرفين أثرٌ لا يضاهى: وأهمّه استمرار الانقسام الطائفي بين اللبنانيين، وكأن الحرب الأهلية لم تنتهِ بعد؛ بل تفريع هذا الانقسام، وإضافة عنصر جديد عليه، أي السنّي – الشيعي. هكذا، استعرت الطائفية – المذهبية بين اللبنانيين، بأشدّ مما كانته في أثناء الحرب الأهلية، لا بل عشيتها. وتكرَّست البلوكات الطائفية الصلْبة، بجماهيرها وشهدائها وخطب زعمائها.. إلخ. وباتَ اللبنانيون قطعاً من “بزل” ضخم، لا شيء يجمعهم غير هذا المكان؛ يا ليته يجمعهم، إنما يطردهم نحو بقاع الأرض كافة. ومن الترسانة الأيديولوجية لهذا العقد، الفكرة التي راجت وسط أبناء حزب الله، وأنصاره من اليساريين – الممانعين: لبنان إنما هو “ساحة”، يحق لحزب الله أن يعبث بها، كيفما ولى وجهه. فكانت تلك العبارات الرائجة في هذا الوسط؛ إن لبنان بلد “سخيف”، وإنه “الوطن المسخ” أو “الكاذب”، أو “المصطَنع”.. تشتد النقمة عليه، كلما تفاقمت واحدة من الأزمات الناجمة عن العقد السياسي إياه. لا يستحق إلا صفة “الساحة” التي أبدع حزب الله في تشريع أبوابها لرياح العبثَين، الإيراني والأسدي.
وإذا ما حاول أحدهم التكلم عن حرْمة الوطن اللبناني، عن الأذى المتأتّي من عبثٍ كهذا، كان الجواب كالصاروخ: إنها فكرة “الانعزال”، المرذولة، خصوصاً، أيضاً، من الممانِعين اليساريين؛ نظراً لترادفها مع اليمين المسيحي، عدو اليسار الإسلامي في الحرب الأهلية.
ثم جاءت الثورة اللبنانية. نعم باتَ يمكن الآن وصفها بالثورة. ومكْمن ثوريتها أنها لأول مرة في تاريخ لبنان القصير، أخرجت جماهير الطوائف من قوقعتها التاريخية، ووحّدتها في حركة واحدة، ومطالب واحدة، وعلم واحد، ولا تعفي أي زعيم طائفي حاكم. وبهذا، خلقت الثورة الهوية اللبنانية الجديدة. هوية وطنية جامعة، تحرّض بإصرار ضد الانتماء الطائفي الذي كانت تتشكل منه الهويات اللبنانية المتناحرة والمتباغضة. أحزاب السلطة هذه، كلها اخترقتها الثورة: السنّة، الذين لم يكونوا على حالة التحام ورضا أصلاً عن قيادتهم الحريرية، والموزَّعين بين “محبَط”، و”إسلامي”، وتابع لزعيم أصغر شأنا، ولكن على السوية الطائفية نفسها. الموارنة، بحزبيهم المتصارعين، القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر (العوني)؛ فضلاً عن وليد جنبلاط بحزبه “التقدمي الاشتراكي”. جميعهم عرفوا تسرّباً من “كياناتهم” الحزبية الطائفية إلى صفوف الثورة، إلا حزب الله. وهو أول من دشّن الحملة، غير المجدية، على الثوار بالترهيب، عبر شبّيحته، وشبّيحة حليفه، نبيه بري. ولا نفعته حملة التسخيف والتخوين بحقهم. والذين خرجوا من مناطق سيطرته في الجنوب والبقاع، لم يكونوا من حزبييه الذين صاروا يتباهون أمام الشاشات، بأنهم “ما زالوا يقبضون.. وبالدولار”. فيما الأشد فقراً من بينهم، والأقل حصانةً أهلية، العائشون في غيتو الضاحية الجنوبية من بيروت.. كابروا على فقرهم، وبقوا صامتين، إلا في تلك التظاهرة المبرْمجة، تحت أعلام حزب الله وحركة أمل، والمأمورة بالهتاف بحياة سعد الحريري، المكروه سابقاً، والمرغوب حالياً، حفاظاً على العقد السياسي إياه.
كنا نقول، قبل الثورة، إن الطائفة الشيعية على هذه الدرجة من التماسك والقوة العصبية، لأنه، إذا خرج أبناؤها منها، فلن يجدوا إلا طوائف ومذاهب. لن يجدوا المجال الرحب الوطني الذي يحلم به الرومنطقيون.
أما الآن، فصار للبنان شهيد واحد، أيضاً لأول مرة في تاريخه: علاء أبو فخر. حزبي سابق في الحزب التقدمي الاشتراكي، الدرزي، بزعامة وليد جنبلاط. خرج من هذا الحزب منذ اليوم الأول للثورة، وقُتل برصاص مشبوه في أثناء اعتصامه الاحتجاجي في منطقته. لأول مرة، يكون لنا شهيد، لا هو بشير الجميل، ولا هو عماد مغنية، أو أيّ من الوجوه الحزبية الطائفية التي لم يتفق حولها اللبنانيون يوماً. ولم تخطئ الثورة مرامها: جنازة علاء أبو فخر لم تقتصر على أهله أو بيئته أو طائفته: لبنان كله، من جنوبه إلى شماله أقام له جنازاتٍ رمزية، وأضاء من أجل روحه الشموع، ونشر صوره ورسمها على الجدران العملاقة، وبكى عليه بلوعة من اكتشف لنفسه ابناً جديداً، بعد فوات الأوان.
الهوية اللبنانية الواحدة، هي الإنجاز الأساسي للثورة. نقيض الهويات القديمة المبعْثرة، المتناثرة هنا وهناك، وكان شعارها الواحد “لنا لبناننا ولكم لبنانكم”، ولبقعة لا تتجاوز مساحتها العشرة آلاف كلم مربع. ولكن الثوار لا يسبحون في السماء. إنهم يريدون، فوق هذه الهوية الوطنية دولة تحميها: قوانين، مؤسسات، قضاة شرفاء… دولة بالمعنى المعروف للكلمة. لا ساحة، تعبث بها مصالح إقليمية، ودولية، تعزّزها دويلة حزب الله، بصواريخها وماليتها المستقلة وجمعياتها المغلقة، حيث تعشْعِش قداسة الشهيد والشهداء، والحياة من أجل الموت. وهذا تناقض جوهري أقامه الثوار بينهم وبين حزب الله، وكل القوى الملتحقة بمشروعه، طوعاً أو كراهية. تناقض بين الهوية الطائفية – المذهبية الضيقة، والمتصخّرة والهوية الوطنية الجامعة. والتناقض بالتالي بين وحدة أصحاب هذه الهوية وتحارُب أصحاب الهوية القديمة وتناتشهم. ثم التناقض الجوهري بين الدولة، صاحبة القرار والقوانين، والدويلة، المستبيحة لهذه الدولة بكل الأوجه الممكنة. وهذا التناقض هو الذي يمْلي على الحزب مواقفه، ومداولاته و”استشاراته” لأجل خروجه من هذه الثورة منتصراً. وهي تهدف كلها إلى الحفاظ على دويلته وهويته، ومعهما العقد السياسي الذي أبرمه مع شركائه، بصفته مهندس هذا العقد وصائغه الأول، وإلا لا معنى لحزب الله؛ فالمعنى الثوري الجديد للبنان ينسفه تماماً.
العربي الجديد