اللائكية الفرنسية والدين والاسلاموفوبيا
بشير العبيدي
كثيرا ما أقرأ أوصافا يطلقها بعض من لم تتح لهم فرصة الاطلاع -بما فيه الكفاية- على مجريات تاريخ فرنسا، وأجد أن تلكم الاوصاف غير دقيقة. وقد يقع كثير من الناس في أوهام فيطلقون الأحكام المسبقة التي لا أساس لها من الصحة. والأخطر يكون عند تدبير السياسة والعلاقات على أساس معلومات غير دقيقة أو عارية عن الصحة.
من ذلك ما يكتبه البعض من أوصاف تطلق على الدولة الفرنسية: فتارة توصف ب “فرنسا الصليبية”، وأحيانا “فرنسا المسيحية”، وتارة أخرى “فرنسا التبشيرية”، ويكتب آخرون: “فرنسا عدوة الدّين”، فرنسا “اللائكية المتطرفة”، فرنسا “المعادية والمحاربة لله وللإيمان”… وما إلى ذلك من الأوصاف.
ولإجلاء بعض المفاهيم، أكتب هذه المقالة التي قد تساعد القراء على تعميق الفهم في ما يتعلق بمشكلة المجتمع والدولة الفرنسية مع الدين، وسبب معاداة اللائكية الفرنسية للدين بوجه عام.
إن اللائكية الفرنسية المناهضة للفكرة الدينية ليست وليدة الفراغ، أو مسألة عارضة، بل هي متجذرة في التاريخ. ولا يوجد اتفاق فكري بين جميع الفرنسيين حيال هذه المسألة، بل المجتمع الفرنسي تشقه تيارات كثيرة جدا، ويوجد من يرفضون رفضا قاطعا موجة الكراهية والبغضاء ضد المسلمين، وأبرزهم وأفصحهم المناضل التروتسكي إدوي بلانال، صاحب موقع “ميديا بارت” الشهير في فرنسا (https://www.mediapart.fr/biographie/edwy-plenel). وبالرغم من وجود هذه الرؤى المتناقضة في الطبقة الفكرية والسياسية الفرنسية، أركز في هذه المقالة على غيمة اللائكيين الرافضين للدين مطلقا.
أعدّد خمسة أسباب رئيسة تفسّر موقف اللائكية الفرنسية المناهضة للدين والتديّن بوجه عام:
أما السبب الأول، فتاريخيّ
وهو تلك الحروب الدينية التي مزّقت المجتمع الفرنسي إربا إربا خلال القرن السادس عشر. لقد عرفت فرنسا حروبا أهلية دامية راح ضحيتها ملايين الفرنسيين، اضطرمت نيرانها بين الكاثوليك والبروتستانت. وبدأت إرهاصات تلك الحروب مع حكم فرانسوا الأول، في النصف الأول من القرن السادس عشر، واشتعلت الحروب الدينية خصوصا في فترة حكم الملكة كاثرين دوميديسيس، التي حاولت التصالح مع البروتستانت في البداية، ثم انقلبت عليهم بعد مجزرة رهيبة معروفة في تاريخ فرنسا، هي مجزرة سان بارتيليمي. وتلت هذه الفترة ثمانية حروب مدمرة، أزهقت فيها ألوف الألوف من الأرواح، خصوصا من البروتستانت، وهي الديانة النصرانية التي انشقت عن الكنيسة الكاثوليكية مطالبة بتحقيق إصلاحات. هذه الحروب الدينية ألقت بظلالها على النخب الفرنسية المثقفة منذ ذلك الوقت، وجعلت تلك النخب على مرّ الأزمان تقف من الدين -أيّ دين- موقفا معادياً، سواء تجاه الكنيسة الكاثوليكية أو الكنيسة البروتستانتية، على السواء. وتعرف هذه الحقبة السوداء في التاريخ الفرنسي بالحروب الدينية الثمانية. واستمرت على الأخص ما بين سنتيْ 1562 و 1598 ميلادية، واستمرّت آثارها السيئة لمئات السنين بعدها.
أما السبب الثاني، فثوريّ
لقد اتجهت الثورة الفرنسية عن طريق عدد كبير من رموز النخب الفرنسية التي أنجزت الثورة إلى “تجفيف ينابيع التدين” الكاثوليكي خاصة. ذلك أنه خلال الثورة الفرنسية التي استمرت على مدى أكثر من مائة سنة، يمكن أن نكشف عن زاوية مظلمة مغايرة تماماً للمعهود، وغير متوقعة في تاريخ فرنسا.
وذلك أنه بعيْد الثورة الفرنسية التي انفجرت أحداثها العنيفة سنة 1789، ونظرا لما كانت عليه الكنيسة من سيطرة وتحكم في مفاصل الدولة والمجتمع، اتجهت جموع من الثوريين إلى ما سمّوه حينئذ : “مشروع استئصال النصرانية من فرنسا” (Déchristianisation) وكان من آثار مشروع استئصال النصرانية، النتائج التالية :
- اضطهاد وقتل القساوسة الرافضين، وكان ضحايا الثورة الفرنسية من رجال الدين النصارى هم أعلى نسبة مضطهدين من بين جميع الطبقات الاجتماعية الأخرى.
- إلغاء صفة القساوسة والأساقفة النظاميين التابعين للكنيسة،
- تدمير أجراس الكنائس (مرسوم 26-1-1794)،
- التعرض لمحاكم التفتيش الرهيبة، وهي شبيهة بمحاكم التفتيش التي عذبت المسلمين واليهود بعد سقوط الأندلس،
- إلغاء التأريخ الميلادي الغرويوري، واستبداله بالتأريخ الجمهوري… ومن ذلك أن الأشهر تم تغييرها لمحو أي أثر ديني قديم، وتم تغيير عدد الأيام إلى 30 مع حسبان الفارق في آخر السنة على حدة، فأصبح سبتمبر هو “فونديمار”، ونوفمبر “بريمار”، وديسمبر “فريمر”، وجانفي “نيفوس”، وفبراير “بليفوس”، ومارس “فونتوس”، وأبريل “جرمينال”، وماي فلوريال، وجوان “بريريال”، وجويلية “ميسيدور”، وأوت “ترميدور”، وينتهي العام بـ “فريكتيدور”… كما غيّرت الثورة الفرنسية أسماء الأيام في اللغة الفرنسية التي توحي إلى الكواكب، وجعلتها عشرة أيام في الأسبوع، مقلّدة طريقة التسمية العربية للأيام، فصارت الأيام اسمها كالتالي: برميدي، ديودي، تريدي، كرتيدي، كنكيدي، سكستيدي، سبتيدي، أوكتيدي، نونديدي، ديكادي… (Primidi, Duodi, Tridi, Quartidi, Quintidi, Sextidi, Septidi, Octidi, Nonidi et Décadi)، ثم تعقد التعامل بهذه الرزنامة فتم التخلي عنها بداية القرن 19 ميلادي.
- تدمير الصور، أو الإيكونوكلازم، وهي عبارة عن قرار بطمس جميع الصور الآدمية الدينية في الكنائس وفي الشوارع العامة (ستلاحظون أن حركة طالبان التي دمّرت تماثيل بوذا في أفغانستان، ومنظمة داعش التي دمّرت تماثيل في سوريا والعراق ليست سبّاقة في هذا “الفنّ” التدميري)،
- جمع ما أمكن من ماعون وأدوات فضية تعود للإقطاع والكنيسة والبرجوازية، والقيام بتذويبه لعمل النقود منه.
- إدراج عطل مدنية بدل العطل الدينية التقليدية،
- التوجه الفكري نحو عبادة العقل،
- التوجه الفكري نحو عبادة الكائن الأعلى،
- نبش مقبرة الملوك في ضاحية سان دوني في باريس، واستخراج رفات المدفونين ومعاقبتهم…
- تم منع التعبد في الكنائس، ولم يقع إلغاء القرار إلا سنة 1802…
ولقد كتبتْ مئات الكتب والدراسات عن فترة تجفيف ينابيع المسيحية، وانتهت هذه الفترة العصيبة بانقلاب على الثورة الفرنسية بسبب تطرّفها ضد الدين، ولم يستقر أمر الثورة إلا بعد مائة سنة من تاريخ اندلاعها. ولأجل ذلك، ماتزال الثقافة الفرنسية تحمل في مورّثاتها الكره للدين، بسبب هذه الحقبة، وكذلك بسبب الحقبة التي قبلها والتي أشرت إليها أعلاه. ولا يمكن أن يفهم موقف الفرنسيين من الدين عموما حتى يستوعب الباحث التراث الطويل من الصراع الثلاثي بين الكنيسة والشعب ونظام الحكم.
أما السبب الثالث ففلسفيّ
وهو يفسّر أيضا موقف الفرنسيين المعادي للدين، ويتمثل في التراث الفلسفي للعصر الذي يطلق عليه تسمية “عصر الأنوار”، وخلاله ظهرت أهم الفلسفات الكبرى التي سيطرت على التفكير الأوروبي والعالمي، ومثلت تلك الأفكار ركيزة للثورات الغربية المتتالية، التي تخلّصت من نير السلطة الاستبدادية الكنسية. فالكنيسة كانت إلى حدود الثورات الأوروبية المتتالية هي المسيطر على العقول والأموال والسياسة والاقتصاد والمجتمع، وكانت الكنيسة هي الجهة التي تقرر من يتعلم ومن يبقى جاهلا. فخلّف هذا الوضع مرارة داخل المجتمع كانت وقودا للثورات الفكرية الفلسفية التي كنست السلطة الكنسية عن التحكم في مصير فرنسا على فترات، عكس ما حدث في أهم البلدان الأوروبية الأخرى التي استطاعت المجتمعات والدول أن تتماهى مع كنائسها وان تتماهى الكنائس مع الثورات التي حدثت فيها، على غرار الكنيسة الأنقليكانية في بريطانيا. وغائية الحياة في مختلف المدارس الفلسفية الفرنسية هي دنيوية صرفة، وشبيهة إلى حدّ ما بالمبدأ الأبيقوري: الرغبة في اللذة واجتناب الألم.
ولقد تعلم كثير من نخب المسلمين في فرنسا، وتشرّبت عقولهم بمقولات الفلسفة الفرنسية طويلا، ولما عادت تلك النخب إلى بلدانها، نشطت في صياغة أفكار لشعوبها، وحاولت ترويج المقولات الفرنسية حول اللائكية، غير أنها اصطدمت بجدار للرفض، نظرا لخلوّ المجتمعات العربية والمسلمة من تجارب كهنوتية شبيهة بالتجارب الكنسية، فلم يفهم غالبية الناس سبب العداء للدين، فصدّوا هذه الأفكار وأوصدوا دونها عقولهم، وإن كان قسم من النخب بقي يؤمن بها ويدافع عنها، لأسباب أخرى، لعل منها الريعية الفكرية التي نشأت لترويج تلك الأفكار.
أما السبب الرابع، فهو الفكر المتديّك الاستعماريّ
فممّا زاد كثير من العقول الفرنسية عداء للفكرة الدينية، تلك التجربة الاستعمارية المريرة التي أتاحت للفرنسيين السيطرة على أعظم ممالك القارة الأفريقية وجزء لا يستهان به من بلدان آسيوية وأمريكية. هذه الإمبراطورية العظمى التي كانت المنافس الرئيس للإمبراطورية البريطانية، ولّدت شعورا بالاستعلاء والعظمة وثبّتت المركزية الفرونكو أوروبية وأعطت النخب شعورا بالهيمنة والأبوية على الفكر والتصور والتنوير، إلى حدّ اعتبار الاستعمار عملا نبيلا يهدف إلى إخراج المجتمعات المستعمرة من التوحّش إلى نور المعرفة والعلم والازدهار والتقدم والحداثة. وكان المثقفون الكبار يؤمنون بذلك إلى حدّ السذاجة والحمق، من ذلك ما كان يؤمن به الأب الروحي لنشر التعليم في فرنسا، جول فيري، الذي كان يردّد، دون خجل: “العنصر الأرقى عليه واجب نقل العنصر الأدنى للحضارة” (“les races supérieures (…) ont le devoir de civiliser les races inférieures”). وكانت هذه القناعة سائدة بشكل كبير، وكانت الجيوش الاستعمارية يتم غسل أدمغة جنودها بمثل هذه الأفكار، التي نعتبرها اليوم من الترهات، بينما كانت عقيدة راسخة عند المستعمرين، ومنهم كثيرون كانوا يقومون بأعمال القتل والإبادة، في سبيل فكرة “نقل الشعوب المتوحشة إلى الحضارة”… ولذلك اتخذ الفرنسيون منذ قرون لأنفسهم شعارا هو “ديك الغولوا”، السكان الأصليون في فرنسا، قبل هيمنة قبائل الفرنجة الجرمانية، الذين أعطوا اسمهم ولغتهم لفرنسا الحالية. وتعتلي الديوك الغلوائية كثير من الكنائس، وكانت على صورة الديك على الفرنك الفرنسي زمن نابليون، والديك شعار تتخذه الفرق الرياضية الفرنسية إلى اليوم، وترمز به إلى التنمّر والاستعداد دوماً للنزال. كما أن الديانة النصرانية تعتبر الديك رمزا لإشراق اليوم الجديد ببشارة النور، وبشارة عودة السيد المسيح.
أمّا السّبب الخامس، فهو التمرّد على السائد
ففي ثقافة الفرنسيين على مرّ الأزمان والحقب، تمرّد دائم متجدد، آخر حلقاته كانت في شهر مايو سنة 1968، عندما خرج الشباب الجامعي عن بكرة أبيهم، وتمرّدوا على حكم الجنرال دي غول، رغم ما لهذه الشخصية من ثقل ووزن في قلوب الفرنسيين. لقد تمرّد الشباب الجامعي في تلكم الفترة، ضد السلطة العائلية والحكومية، وضد الرأسمالية الاستهلاكية، والامبريالية الأمريكية، وضد حكم الجنرال دي غول. ولقد أثّر هذا التمرد في العقلية الفرنسية المعاصرة إلى أبعد الحدود، وجميع النخب الفرنسية التي هي في المشهد يومنا هذا، من فلاسفة، وكتاب، وأدباء، ورؤساء جامعات، وأساتذة ومديرين وفنانين، وكل من يصيغ المعرفة ويمررها للأجيال الموالية، هم من جيل تمرّد سنة 1968. وما تشهده فرنسا اليوم من حمّى التناقضات الفكرية، والهجوم الفكري على المسلمين، يتم عن طريق هذه الفئة التي كانت في يوم ما متمرّدة، فرأت أن أفكارها بصدد المراجعة الجذرية من طرف الشباب، فحرّكت أذرعها الإعلامية والفكرية والفلسفية للحفاظ على “مكتسبات ماي 1968″، وهي بذلك صارت محافظة، في ذات الموضع الذي ثارت ضده ذات ربيع سنة 1968، وترفض رؤية المجتمع الفرنسي وقد تنوّع وتبدّل وتجدّد بعد دخول ثقافات جديدة وامتزاجها بالثقافات الفرنسية الأكثر تجذرا في التاريخ. وهذه نقطة قوة تحسب للثقافة الفرنسية، وهي قدرتها على التجدد عبر التمرّد المتواصل.
لأجل هذه الأسباب الخمسة -وغيرها من الأسباب مما لا يتسع المقام لتفصيله- نجد غالبية الفرنسيين يقفون تجاه الدين موقفا مناهضا في أدناه ومحاربا في أقصاه، ولا أعتقد أن هذا الأمر سيتغير قريبا. وما يمكن تغييره في المدى المنظور هو نمط الخطاب الذي ينبغي التوجه به إلى المجتمع الفرنسي. وعلى سبيل المثال، لا يمكن -في نظري- أن يفهم الفرنسي القاعدي فكرة أن ارتداء الخمار هو “التزام بأوامر الله”، أو أنه التزام من أجل “رضا الله”، فالعقل الفرنسي اللائكي يكفر بفكرة وجود الإله جملة وتفصيلا، ويعدّ من يؤمن بها متخلفا وجاهلا. لكنّه مستعد أن يفهم أن حرية اللباس الساتر هي الوجه الآخر لحرية اللباس الساحر والحاسر. ولأجل كلّ ذلك تبدو لي كلمة رُهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) غير دقيقة لوصف الواقع الفرنسي الحالي بشكل مناسب. وعندنا في ثقافتنا المسلمة قاعدة تقول: الحكم على الشيء فرع عن تصوّره. ويمكن الاستفادة من هذه القاعدة في التعامل مع هذه الفئة، فلا يمكن تقديم الالتزام الديني من باب الدين، بل من باب الحرية الشخصية والجماعية المكفولة، لأن تصور اللائكية المغالية للدين تصور قائم على ما ذكرنا، فلن يحكم أصحاب هذا التصور على طاعة الدين إلا من زاوية تصورهم له، وتغيير التصور أمر شائك، لا يتم إلا بعد عشرات السنين بل بعد قرون من الزمن.
كدين سماوي أو كدين حاضر في المجتمع الفرنسي لا يثير رفض الفرنسيين في عمومهم، إذا استثنينا منهم مهابيلهم ومتطرفيهم ومروّجي الكراهية عندهم وجهلتهم الذين يسمعون لهم وهم قلة، وإن كانت أصواتهم مسموعة أكثر من غيرهم. ما يثير حفيظة الفرنسيين في عمومهم هو الرّهاب، أي الفوبيا، من وجود فكرة ومذهب وأيديولوجيا يناقش الغرور والتفوق والاستعلاء والتديّك والتنمّر الفكري الذي طبع النفوس المشبعة بمركزية الأنا، ولا أريكم إلا ما أرى. ومن الصعب جدا أن يقبل العقل الفرنسي من يعطيه الدروس، لأنه عقل وجد لكي يكون أستاذا، ولا يقبل أن يكون متعلّما في المطلق، فكيف سيتعلم من دين إسلامي لم يستطع أتباعه أن يمنعوا فرنسا من احتلال بلادهم مائة وخمسين سنة، ولم يستطع أتباعه التخلص من مستبديهم ولا أن يدخلوا إلى الحداثة عبر حوكمة حديثة ديمقراطية كبقية الشعوب. ولا يمثل التناقض والنفاق السياسي مشكلة للعقل الجمعي الفرنسي، فيمكنه أن يعطي دروسا في الديمقراطية، ويدعم جميع مستبدي إفريقيا بالسلاح والعنف، ولا مشكلة في دعم الانقلابيين إطلاقا، ولا مشكلة في التعاون مع الأنظمة الثيوقراطية الدينية طالما يجلب ذلك ربحا ومصلحة، ولا مشكلة أبدا أن يعلن الحاكم الفرنسي إسلامه إن كان ذلك يسهّل خططه، وهو ما حصل فعليا حين غزا نابليون بونابرت مصر، ولأجل إخضاع المصريين، أعلن إسلامه، وأعلن خضوعه للباب العالي العثماني، ولا مشكلة أبدا في دعم زعيم الثورة الإيرانية الذي مكث في باريس اثنا عشر سنة وقاد الثورة “الإسلامية”، ولا مشكلة في التعامل مع ممالك النفط الثرية بصرف النظر عن عقيدتها الوهابية (راجعوا تصريح ولي عهد السعودية لصحيفة واشنطن بوست في شهر 03-2018 حين اعترف في تصريح -لم يكذبه الغربيون مطلقا- قائلا: نشر الوهابية كان بطلب من الحلفاء خلال فترة الحرب الباردة بهدف منع الاتحاد السوفييتي من التغلغل أو كسب نفوذ في دول العالم الإسلامي”. وهذا دليل قاطع على أن فكرة محاربة الغرب للإسلام ينبغي مراجعتها)، ولا يمثل هذا التناقض بين القول والفعل أي مشكلة للحاكم في العقل الغربي عموما، طالما كان الهدف هو تحقيق مصلحة. ولذلك لا يعتبر الدين في المطلق مشكلة لمؤسسة الدولة الفرنسية، ولا غيرها من الدول، بل المشكلة هي في طبيعة فكر وسلوك أتباع هذا الدين، وهل يكون في ذلك مصلحة أم مفسدة من زاوية النظر السياسي والمصلحي.
ولو صحّ فهمي هذا للمجتمع الفرنسي في جملته، فلا يبدو لي أن عنوان رُهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) يستطيع أن يجمع الناس حوله في فرنسا ولا في غيرها، كما جمع مصطلح “معاداة السامية” المجتمعات والدول. لأن مصطلح “معاداة السامية” تسنده دول عظمى قوية ونووية لها مصلحة في دعم الاحتلال كضامن لإخضاع ممالك النفط، بينما مصطلح “الإسلاموفوبيا” تخذله كبرى العواصم العربية والإسلامية الوازنة، فهذه عاصمة يحكمها انقلابي مجرم يطالب بمحو الدين من الحياة، وهذه عاصمة حاكمها يسجن المصلحين ويقطّع المعارضين قطعا ويحرق بقاياهم في الفرن، وهذه عاصمة تخوض حكومتها حروبا طائفية لا نهاية لها باسم الثأر للحسين، وهذه عاصمة تصب على شعبها سعير البراميل المتفجرة صبا، وهذه عاصمة غارقة في الماضوية والخنوع خوفا من استفاقة شعبها، وهلم جرا. ففي مثل هذا الواقع المرير، مصطلح رُهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) لن تسنده الدول العربية والمسلمة الوازنة، ويفتح الباب واسعا للنقد والتخذيل وتنفير الناس منه. أما المصطلح الذي يبدو أنه يجمع أكبر عدد من الناس فهو الحرّية، وممارسة الحرّية بكل ما للحرّية من معنى الغيرية والاستيعابية في ضمير الفرنسيين. لأن الذي حصل الآن من هجوم ممنهج ضد المسلمين هي محاولة لحرمانهم من “حريتهم” المكفولة بدستور البلاد وقوانينها، ليس لأنهم مسلمين بالضرورة، بل لأنهم مجموعة بشرية تعدادها كبير، وتجمعهم فكرة انتماء قد تشكل في المستقبل تناقضا مع الثقافة السائدة والمصالح القائمة وتضعف من هامش المناورة الخارجية. ولو كانت هذه الجموع البشرية تدين بالمجوسية أو بالبوذية، ولها آثار مشابهة على السياسة، لما اختلف الأمر كثيرا.
ومما يجعل السياسة الفرنسية الحالية تستدرج إلى هذا النقاش هو الرغبة غير المعلنة للتغطية على المشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لأن الساسة في منتصف عهدهم الانتخابية لا يقدمون على قرارات إصلاحية غير شعبية، وجل الإصلاحات الموجعة يقومون بها في الجزء الأول من العهدة الانتخابية، ولو قاموا بها في السنتين الأخيرتين، يوشك ذلك أن يغضب الناس، فيقومون برد الفعل عبر صناديق الاقتراع، ويرحّلون الفريق السياسي الحاكم. ولهذا السبب، يلجأ الساسة إلى حيلة قديمة معروفة، وهي الإلهاء والإشغاب، عبر بث خيالات سياسية وهووية ودينية تبث الدخان وتملأ الفراغ وتشغل الناس حتى وقت الانتخابات. وهذه ألاعيب قديمة استخدمها الحكام كثيرا، حين كانوا يروجون في كل فترة دعايات نهاية العالم، ودعايات عودة المسيح، ودعايات البشائر بمختلف أنواعها، فينشغل الناس بالنقاش، ويظل الأذكياء في أماكنهم يسخرون من غباء الأغبياء.
فالمشكلة، وفق تقديري، هي داخل المجتمع الفرنسي وفي نفوس بعض الساسة المتخاصمين على حصد أصوات الناخبين، وليس مع الدولة كمؤسسات، فلقد كانت فرنسا الاستعمارية تحكم مئات الملايين من المسلمين، وكانوا أغلبية في مستعمراتها، والشعب الفرنسي أقلية، ولم يمثل ذلك مشكلة، ناهيك أن بعض الجزر الفرنسية اليوم يسكنها مسلمون، ولا يزعج ذلك أحدا. فلا ينبغي الخلط.
وفي المظاهرات الأخيرة ضد رُهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا)، تمّ تخذيل الناس إعلاميا انطلاقا من صورة التقطت لطفلة صغيرة كانت تحمل شعار “النجمة الصفراء” في مظاهرة رُهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) بباريس، والنجمة الصفراء هي نكتة حالكة السواد في مخيال الفرنسيين، وهو ما ذكّر الناس بتاريخ أسود للدولة الفرنسية في عمالتها وتعاونها مع النازية حين كانت قوات هتلر تحتل فرنسا، ولما ألزمت النازية اليهود حمل تلك الشارة الصفراء لتمييزهم عن غيرهم ومعرفتهم. وما كان ينبغي للمسلمين حمل تلك الشارة، لأنها تذكير مباشر للدولة بماضيها المخزي في خيانة المواطنين اليهود مع النازية تحت حكم الماريشال بيتان خلال الحرب الكونية الثانية. بينما اليوم الأمر مختلف تمام الاختلاف، وهو إسقاط لا يناسب الواقع الجديد. ناهيك أن بعض حكام المسلمين كانوا قد لجأوا أيضا إلى الأسلوب ذاته في الماضي حين فرضوا على اليهود حمل شارة خاصة بهم لتمييزهم عن بقية السكان، هذا مع اعتراف الجميع أن اليهود عاشوا مع المسلمين دون مشكلات كبيرة في أغلب الفترات.
إن معالجة موضوع رُهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) مما يتطلّب الفهم العميق للمجتمع الفرنسي والغربي عموما، ويستدعي الحنكة والدّهاء كما يستدعي الحرص على التعاون وجمع الكلمة والانسجام والتقارب والتآلف مع الأقربين ومع المجتمع القائم، بثقافته وهمومه ومخاوفه ومحاسنه ومساوئه.
الخوف من الإسلام لا يحارَب بشعار ولا بجلب مذاهب وأيديولوجيات وثقافات وأفكار وأحاسيس تاريخية من البلدان الأصلية ومحاولة استنباتها في تربة جديدة من دون إجراء تعديل وراثي لأقلمة الفكرة الوافدة في البيئة الجديدة. الرهاب من الإسلام يحارَب بأن يثبت المسلمون عمليا على أرض الواقع أن هذا الدين العظيم صنع من أتباعه جزءا متماسكا ومنسجما ومتآلفاً انضاف للمجتمع الفرنسي والأوروبي وامتزج به وقوّى جانبه وجدّد فيه ما بلي من أفكاره وأعطاه عطرا جديدا طيبا، تماما كذلك السكّر الذي يمتزج بالحليب فيضفي على مذاقه الحلاوة، دون أن يجعل الكأس تفيض. وهذا يتطلب جهودا عظيمة، أولها تأسيس فكر التمدّن الجديد وفرز ما يمكن الإبقاء عليه عما يمكن التخلي عنه، وضبط رؤية قائمة على أولويات يعمل في نطاقها الجميع بانسجام، كل من موقعه، وبناء مسلك تواصلي مع المجتمع لإيصال الفكرة الصحيحة والصورة السليمة عن المواطنين المسلمين، وهذا يتطلب جهودا فكرية كبيرة جدا وشاقة وطويلة الأمد، كما يتطلب صد كل محاولات التدخل في شؤون المواطنين المسلمين من طرف الخارج، وتركهم يديرون شؤونهم باستقلالية وانضباط.
أخيرا، هذه مساهمتي في النقاش حول الرّهاب من المسلمين في أوروبا وفرنسا تحديدا، وإن لم يكن في ما كتبت نفع، فأرجو أن يسهم على الأقل في إثراء النقاش حول هذه المسألة الخطيرة. ويمكنني أن أتفهم من يخالفني الرأي فيما ذهبت إليه، فلا أحد يمكنه أن يحيط بالحقيقة من جميع جوانبها. لكن هذا ما استطعت أن أفهمه بعد ثلاثين سنة من العيش في فرنسا وأوروبا. ولا توجد أرض على هذا الكوب يمكنها أن توفّر العيش الهنيء الأبدي لأيّ كان من دون مشكلات وتحديات، فالناس خلقوا مختلفين للتعارف، والتعارف وجوهه لا تعد ومنها خوض المعارك، والمعارك لا توقف الفناء بالموت، وإنما وجد الموت من أجل أن تستمر الحياة وتتجدد. وستستمرّ الحياة ما شاء الله لها أن تستمر، وستتجدّد، بنا أو بغيرنا، سنة الله في خلقه.
#بشير_العبيدي | ربيع الأول 1441 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا |