الحداثة الجاهلة في تونس

نور الدين العلوي

هل يمكن أن تكون الحداثة جاهلة؟ الحداثيون في عالمهم الخاص والمغلق يقولون إن الحداثة هي العلم المطلق، لكنني سأقدم أمثلة على حداثة جاهلة بل غبية ومتخلفة، تصريح السيد حسن الزرقوني مالك مؤسسة سيقما كونساي للسبر التجاري وهو علم من أعلام الحداثة في تونس بل مرجع في مقاومة الرجعية عامة والرجعية الدينية خاصة في ندوة فرنسية في باريس لقراءة نتائج الانتخابات التونسية الأخيرة، قال إن الجنوب الإسلامي صوت كله لقيس سعيد.

هنا وجب الرد للتوضيح أولًا ثم لكشف أن هذا القول هو قول ما قبل الدولة وما قبل الحداثة وما قبل الديمقراطية، فقائله جاهل بخريطة البلد الثقافية والسكانية والتاريخية رغم أنه إذا ذهب في زيارة أهله بالجنوب تحدث بفخر عن أصوله الجنوبية كما لو أنها هوية خاصة متفوقة.

الجنوب ليس هوية خاصة
القول إن منطقة ما تصوت في اتجاه واحد يفترض وجود حالة انسجام قصوى بين أفرادها وهذا الانسجام التام لا يقوم إلا على معتقد أو ثقافة قاعدية جامعة وغير قابلة للنقض في معركة انتخابية توجهها بالضرورة نوازع مصلحة ذاتية، فهل ينطبق هذا على الجنوب التونسي؟ وهل هذا سبب التصويت لقيس سعيد الذي لا ينتمي إلى قبائل (أو مدن) جنوبية ولا يعرف عنه إلا أنه رجل متعبد بعيدًا عن ربط الدين بالسياسة كما يوحي صاحب القول أعلاه؟

في نسب التصويت كان الجنوب مع قيس سعيد بنسب فاقت 90% في بعض المدن، لكن هل كان تصويتًا إسلاميًا؟ إذا سلمنا بالرأي أعلاه فإنه كان يجب أن يحصل حزب النهضة الإسلامي وائتلاف الكرامة الأقرب إلى التيار السلفي على نسب تصويت عالية جدًا بل ربما كاملة، ولكن التصويت في التشريعية أعطى خريطة مختلفة للتصويت ولم يفز الإسلاميون إلا بقليل لا يكشف تصويتًا إسلاميًا بل ينفيه.

إلى ذلك يمكن إضافة أن مرشح حزب النهضة في الدور الأول (عبد الفتاح مورو) حصل على نسب أقل من نسب سعيد ومن نسب الدكتور المرزوقي في مساحة يفترض أن تكون له خالصة دون بقية المرشحين، فأين ذهبت إسلامية الجنوب؟

الجنوب التونسي لا يصوت للإسلاميين بشكل كامل فهم بعض منه، ولكن هناك قضايا محددة تقع في نفوس الجنوبيين جميعهم موقعًا طيبًا فيصوتون على أساسها كقضايا حفظ الأسرة واحترام المرجعية الدينية، وهذا يسري على مناطق أخرى كثيرة في الوسط والشمال. الخطاب الذي يحفظ كيان المجتمع مقبول في أوساط كثيرة يمكن نعته بالوسط المحافظ ولكن المحافظة ليست إسلامًا سياسيًا بل مفردات هوية قديمة تجذرت فطبعت سلوك الناس وأخلاقهم بمقادير متفاوتة ولكنها مؤثرة في زمن تحرر التصويت.

تصويت الجنوب يقول للرزقوني توجد حداثة أخرى، فالمحافظون على ثقافتهم انتخبوا من يساعدهم على ذلك ولكن وجب التذكير أن الذهاب إلى الانتخابات والتصويت بكثافة عجيبة هو حداثة في ذاته، وهو رد على زعم حداثة أخرى لا تفرق بين الوطن ومكسب السياسي المغامر، وجب إذن أن نسأل لمصلحة من يروج السيد الزرقوني؟

التحريض على قيس سعيد والثورة
ليس لحديث إسلامية الجنوب إلا خلفية واحدة وهي التحريض على قيس سعيد في فرنسا بالذات، ولذلك لا يمكن أن يكون خطاب الرزقوني إلا بداية ننتظر لها بقية أشد قوة على الرئيس المنتخب الذي لا يبدو حتى الآن على هوى أحد غير برنامجه الذي صرح به في بيان القسم.

ونجد أنفسنا هنا مضطرين إلى التذكير بأن قسمًا كبيرًا من النخبة التونسية حرضت ولا تزال في فرنسا على الثورة وعلى كل مخرجاتها، معتبرة ذلك من قبيل حماية الحداثة حتى لا يخربها الإسلاميون أو حلفاء الإسلاميين.

الحداثة المثال أو النموذج هي حضور السيدة سهير بلحسن المناضلة الحقوقية والمدافعة الشرسة عن حقوق الإنسان في مشهد إعلامي مباشر مع وزير خارجية فرنسا إيبارت فيدرين سنة 2012 (بعد فوز حزب النهضة في الانتخابات وقيادته للحكومة)، ودعوتها للوزير أن يحرك قوة فرنسا لحماية الديمقراطية في تونس من الظلامية الزاحفة، وهو الموقف الذي اضطر الوزير الحريص على زيه الديمقراطي أن يذكرها بأن بلدها بلد مستقل وذا سيادة وعضوًا في الأمم المتحدة.

هذا النموذج السلوكي يتكرر كلما فقد تيار الحداثة موقعه في السلطة، إذ رأيناه يتمتع بالحداثة تحت حكم الباجي ويطرح قضاياه المركزية من عدم تجريم المثلية الجنسية وإباحة المخدرات، وفي هذا السياق نقرأ تصريح الزرقوني مثلما سنقرأ الكثير من بعده يصب في نفس الاتجاه.

إن خطاب السيادة وإعادة رسم الحدود مع الغرب الاستعماري على أساس أولوية المصلحة الوطنية هو الخطاب الذي ضمن لسعيد نسبة تصويت عالية في الجنوب وليس الخطاب الديني، فالرجل لم يلق جملة واحدة ذات صبغة دينية ما عدا دمج آيات قرآنية في مفاصل خطابه (حتى إن خطبة القسم كانت بتراء).

الجنوب الذي يصوت لقضايا السيادة الوطنية هو نفسه الذي تصدى لهجوم إرهابي في بن قردان وأفشله بصدور عارية، ورفع الناس في مواجهة الإرهاب (بلادي قبل أولادي) ثم رفضوا المساعدات العينية التي أريد بها إذلال شجاعتهم ورفعوا شعار (وطني قبل بطني).

خطاب السيادة في الجنوب له وقع خاص لأن الجنوب دون بقية البلاد تعرض لأبشع أنواع الاستعمار، فقد حوصر عسكريًا وشردت قبائله وأفقر إفقارًا بهدف تدميره، ولما شارك بقوة في معركة التحرير لم ينل فوائد كثيرة من الدولة الجديدة التي تركت ثرواته تحت تصرف الدولة الاستعمارية باتفاقات مهينة (يعلن قيس سعيد مراجعتها).

يوجد في الجنوب شعور عميق بالظلم من الدولة الحديثة، وقد عمقه سليل الدولة الحديثة الباجي عندما قال إن الجنوب كله أدغال إرهاب، لذلك كان تصويته سياديًا تحرريًا غير إسلامي، ولكن قول ذلك في فرنسا يؤلم فرنسا ولا يساعدها، لذلك تقوم النخبة الحداثية بتحريف القراءة وتشويه الوقائع فيصيب مكانة عند فرنسا وتصيب فرنسا مكانًا في بلاده.

هل هذا من الحداثة؟
إننا نرى نخبة تزعم الحداثة ولكنها لا ترى أن من الحداثة أن يكون للمرء بلد مستقل ومتحكم في ثرواته ويخدم شعبه لذلك نكتب عن الحداثيين المتخلفين والرجعيين، فلا يكفي أن يزعم المرء الحداثة ليكون حداثيًا فالجبة لا تصنع الراهب والحداثة في تونس جبة خلقة لا تستر عورة الحداثي التونسي الذي لا يتورع عن الخيانة الوطنية باسم حماية الحداثة من الخوانجية الذين صوتوا لقضايا السيادة.

الحداثة التونسية تفرز تعبيرات رجعية عنها، لذلك تغالي في وصف نفسها بالحداثة قبل أن تنكشف عوراتها الحداثية في سياق تحرر وطني، إذ إنها تعرف قبل غيرها غياب الجدية في خطابها الحداثي وإنما هو أكل عيش من هامش فرنسي ذليل، لذلك لا غرابة أن نجد السيد الزرقوني يؤسس مهرجان الموسيقى الروحية (حتى لا يقول الصوفية) في بلدته نفطة (جنوب غرب) ويفتح ركحًا واسعًا للتخميرة اللاهوتية كما حددها أوجست كونت أبو الحداثة الوضعية.

كان عليه أن يقرأ أوجست كونت قبل أن يتكلم ليفهم أن التصويت السيادي في الجنوب يبني دولة مدنية وضعية لا طريقة صوفية وراء الشيخ قيس سعيد.

نون بوست

Exit mobile version