تدوينات تونسية

مواقف إبليسية أو عندما تسقط الأقنعة

منجي المازني

جاء في الأثر أنّ إبليس كان من أكبر العبّاد والزهّاد في صفوف الجن إلى درجة أنّ الله قد اصطفاه على سائر الجنّ ورفع من مكانته إلى صفّ الملائكة. وعندما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم سجد الملائكة كلّهم إلاّ إبليس الذي امتنع ثمّ احتجّ بأنه خير من آدم “قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ”(الأعراف الآية 12). وهو الموقف ذاته الذي أعلنه أبو جهل. فعندما سأله الأخنس ابن شريق عن موقفه من محمد ﷺ أجاب بالقول : “تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعَموا فأطعمنا، وحمَلوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رِهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدقه”! (سيرة ابن هشام).

كان ولا يزال هذا السلوك، سلوك الأنانية والتكبّر والتعالي وتورّم الذّات، يتكرّر في كلّ عصر ومصر إلى يوم النّاس هذا. فيحدث أن يتظاهر الإنسان بالصّلاح والإصلاح ويتخفّى وراء التقوى والزهد إلاّ أنّه سرعان ما يفتضح أمره لأنّ هذه التقوى المعلنة لم تنبع من القلب ولم تكن خالصة لله وإنّما تخفي رغبة جامحة من أجل نيل شرف أو الحصول على وجاهة. فهذا إبليس كان يعبد الله ويجتهد في عبادته لا من أجل خالص العبادة وإنّما لكي يكون من علياء القوم ويشار إليه بالبنان. فلمّا علم أنّ مخلوقا آخر سوف ينازعه هذا الشرف وربّما ينتزعه منه كفر بالعبادة جملة وتفصيلا ثمّ زاد على ذلك بأن جادل الله وتمادى في الجدال واتباع طريق الغي: “قال أريتك هذا الذي كرّمت عليّ لئن أخّرتني إلى يوم القيامة لأحتنكنّ ذريته إلاّ قليلا” (الإسراء 62).

إنّ منطوق ومعنى هذه الآية هو لعمري عين ما تفعله وتمارسه بعض الأحزاب المحسوبة على الثورة حيث أنّها درجت على النضال لا من أجل النّضال الخالص بل من أجل أن تتصدّر المشهد السياسي بكلّ الطرق الممكنة. فإذا برز من تبوّأ الصدارة عن جدارة بالدستور والوسائل القانونية كفرت بالديمقراطية والقانون والدستور وجادلت وعارضت وردّدت قولة إبليس “أنا خير منه” “ما يشبهولناش” ؟ واستماتت في الاحتجاج والانقلاب على الوضع الجديد الذي أفرزته الانتخابات وذلك بمحاولة طرح وفرض مقاربات تتعارض صراحة مع ما جاء في الدستور وتتماشى مع طبيعتها وما درجت عليه من كبر واستعلاء وتسلّط. وكان آخر طلعاتها وشطحاتها في هذا المضمار هو ما اقترحته من مقاربة خارجة عن معجم الفكر السياسي وتتمثّل إمّا في المطالبة بمناصب وزارية تفوق ما سيتحصّل عليه الحزب الفائز في الانتخابات أو في اقتراح حكومة الرئيس بدعوى أنّ الحزب الفائز لم يفز بأغلبية مريحة تمكّنه من ترأس الحكومة القادمة !!! ولم تكتف هذه الأحزاب بمعارضة دستور البلاد التي شاركت في صياغته بنفسها منذ فترة قصيرة بل طالت معارضتها إلى معارضة أحكام الله وما جاء في القرآن من آيات محكمات وما اقترحته في علاقة بالمساواة في الميراث بين الذكر والأنثى بدعوى الحرية والحداثة وحقوق المرأة. وكأنّ الله جلّ جلاله غاب عنه ما سيحدث في هذا الزمان ! !

لم يبق إلاّ أن نسرّ لهؤلاء الرهط من السياسيين أنّ خدعهم لن تنطلي على الشعب وسوف ينكشفون في يوم من الأيّام ويفتضح أمرهم إن عاجلا أم آجلا. وما حدث لإبليس ليس ببعيد. فلم يمنعه تخفّيه وراء الصلاح والتقوى و”الثورة” لسنوات طويلة من الإفلات من الامتحان. قال الله تعالى : “الم. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين”. (العنكبوت 1-2)

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock