مافيا الثقافة في تونس
عدنان منصر
أوركسترا متناسقة، ومعزوفة قاتلة
يفترض بالثقافة، وبأهلها، أن يحملوا أولويات التجديد، ويرسخوا القيم الأخلاقية التي تجعل بالتدريج من الشعب أمة، تعرف ما تريد، وأن يساعدوها، في مجهود متواصل وثابت، على بلوغها ما تريد. لا يفترض بالثقافة اليوم، أن تكون ميدانا كبقية الميادين، بل إن ما هو مطلوب منها أدق بكثير مما هو مطلوب من غيرها.
من المؤسف أنه بعد حوالي عشر سنوات من الثورة، لا تزال الثقافة في معظمها، فضاء للمحافظة، ولا أعني بذلك المحافظة الثقافية، بل المحافظة الاجتماعية، بما هي حرص على المصلحة المباشرة لطبقة “استقلت بهمومها”، وأن أكثر همومها قد أصبح المال. يحاول جيل جديد من الشباب المثقف والمبدع أن يجد موطئ قدم له، لكنه يواجه بصرامة وعنف شديدين من منظومة المتنفذين، وهم بالصدفة نفس أولئك الذين تنفذوا في العهد السابق. في الغالب، لا تجد لهؤلاء نصا أو أثرا إبداعيا وحيدا يسمح بتصنيفهم مثقفين. الأمر يتعلق في الغالب بمجرد “فهلوة”، تلك الممارسة التي أنتجت نظام سمسرة تخيط حدوده، عناصره، ومضامينه، “شلة أنس” تقسم العطايا فيما بينها وتقتل كل نفس جديد.
عندما يكون تركيز الوزير المكلف بالقطاع، حتى ولو جاء من فضاء الإبداع الثقافي، منصبا فقط على البقاء في موقعه، فإن رضوخه لتلك الشلة يصبح أمرا حتميا. ولكنه خضوع يغرف أدواته وإمكانياته من المال العام مباشرة، ودون حسيب ولا رقيب. مر على كرسي الوزارة منذ الثورة كثيرون، ربما كان مهدي مبروك تقريبا هو الوحيد الذي سعى فعلا لتحرير الوزارة من لصوصها، ولكن دون نجاح كبير. هذه المنظومة قوية، بعضها تفتح أمامه لوبيات فاسدة أخرى منابر إعلامية بكاملها للدفاع عن فساده، والبعض الآخر مختص في التأثير على الفاعلين الخارجيين. أوركسترا متناسقة، ومعزوفة قاتلة.
الثقافة ليست سوقا، ولكنها في بلادنا اليوم مجرد سوق، يتواطأ في تقسيم أسهمها رسميون و”فنانون”، وإعلاميون، وجبناء. الضحية هم المثقفون الشباب من الجيل الجديد، ولكنهم ليسوا مجرد ضحايا فقط، هم مستقبل الثقافة الحقيقي في تونس. هؤلاء المبدعون المقموعون، ألا يستحقون أن تترك لهم أخيرا الفرصة؟ لكن ذلك مرتبط فقط بعملية تطهير واسعة، نعم أعني المفردة، “تطهير حقيقي وواسع” للسماسرة، لصوص المال العام. ربما تأخر ذلك لحد الآن… لكنه لا يجب، ولا يمكن أن يتأخر أكثر !