الأحزاب والجُذام

أحمد الغيلوفي

محاولة في فهم أزمة الأحزاب في تونس
ليس في الأمر أي تجنّي او تشويه، وانما هناك علاقة مباشرة بين الأحزاب ووباء الجذام الذي أصاب أوروبا في القرن 16. سوف يتضح ذلك لاحقا.

اريد ان ابدأ اولا بهذه الاسئلة: ماذا يعني فشل الأحزاب التونسية في إدارة الشأن العام مُقابل نجاح العمل الغير ُمهيكل؟ ماذا يعني فشل كل الأحزاب في إيصال مرشحيها ووصول رئيس للحكم وبنسبة أصوات عالية وهو غير مدعوم من حزب؟ ماذا يعني عجز الاتحاد المتنامي عن التأثير ؟ ماذا يعني تنظيم أكبر حملة نظافة في تاريخ تونس بدون أن يُشرف عليها هيكل وقيادة؟ اخيرا: ماذا يعني خروج الناس في لبنان والعراق ضد الطائفية؟ ماذا يعني ان تحقق اغنية مغربية “يعيش الشعب” (وليس يعيش الملك) مليوني مشاهدة في 48 ساعة؟. انها ولادة المُشترك: طاعون الأحزاب والسلط القديمة.

1. الطاعون والحداثة السياسية:
من الطريف أن يشير ابن خلدون إلى الطاعون الذي أصاب افريقية بوصفه السبب الذي جعله يكتب “المقدمة” ويجعله كارثة تُنهي القديم وتخلق الجديد “الطاعون الجارف الذي تحيّف الامم وذهب بأهل الجيل.. وتبدلت الأحوال جملة.. فكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم مُحدث”. لأنه عالم “مُحدث” لذلك قطع ابن خلدون مع التفسير الغيبي لنشأة الدول واضمحلالها وغرس الفكر السياسي في العصبية، أي في البيولوجي “إن قوة العصبية من سائر القوى الطبيعية”. لقد أصبح تأسيس الدول ليس عملا صالحا في خدمة الملة وإنما نتاج لاقتصاد حيوي يميز النوع الإنساني. سوف نلتقي مرة اخرى لعلاقة الطاعون بالدولة ولكن مع فوكو في “تاريخ الجنون”: لقد نشأت الدولة الحديثة خلال صراع أوروبا مع الجذام ثم الجنون. “إن الجذام (la lépre) قد اضمحل أو يكاد، ولكن هذه البنى سوف تظل موجودة” (يقصد ردود الأفعال تجاه المجذوم). أين تظهر؟ تظهر في ممارسة الفكر السياسي للتقسيم والاستبعاد والتطهير والإقصاء، سوف تعامل المختلف كما كانت تعامل المجذوم: انه مريض ومُعدي وخطير يجب استبعاده ونفيه او وضعه في السجن او المستشفى. من هنا ولادة السجن والعيادة. والصحيح والعاقل؟ انه ينتمي لـ “النحن” للشعب. ولادة مفهوم الهوية الشعب. كيف ننتج التماهي؟ بواسطة التعليم. ولادة المدرسة. علينا أن نُذكّر بأن الدول لا تزال تستبطن رعبها القديم من الجنون لذلك تتهم كل من يخرج عن سلطتها بـ “لقد تبين انه مختل عقليا.. او حبوب الهلوسة”. بمعنى أن أية ثورة هي جنون.

2. الأحزاب والجذام
الأحزاب والنقابات هي مؤسسات الدولة الحديثة: ورثت نفس الهيكلة: الرئيس والمكتب التنفيذي والمكتب السياسي. ونفس أدوات العقاب: لجنة النظام التي تمارس العقاب. ونفس الوظيفة: إنتاج الهوية والضبط والتنظيم والإقصاء. وورثت نفس الرعب من المختلف: “ما يشبهولناش.. ليس منا.. ذباب أزرق.. كفار ملاحدة اقصائيين.. أو مغرر بهم تتلاعب بهم المخابرات العالمية.. مُنخرط في مؤامرة ضد الخيمة”. يظهر رعب هذه المؤسسات من الاختلاف عندما تسأل “مادام الحزب x يشبه لكم لماذا لا تتوحدون؟ ستُجاب بـ “لا ما يشبهولناش 100% (يبحثون عن 100%) ولا يغرنك انصهار بعضهم معا: احضر انتخابات الهياكل وشاهد: هذا من جماعة فلان ما يلزماش يطلع. نفس ردود أفعال الدول تجاه المختلف: مؤسسات هووية وغير ديمقراطية. نفس متلازمة الجذام التي أنتجت فكرة الشعب الحديثة القائمة على وهم الهوية والرافضة للاختلاف. الاختلاف يجعل المختلفين يبحثون عن المشترك لتأسيس الممارسة السياسية، اما الاحزاب فقد لاحظناها في مفاوضات تشكيل الحكومة تبحث عن الاختلاف لتأسيس المواقف. انه رُهاب الجذام ووهم امتلاك الصحة العقلية وإسقاطها عن الآخر (التقدمية – الحداثة – الوطنية – الوعي” نحن نعبر عن شعبنا وأنتم لا تنتمون للشعب..”.

3. “الجمهور”: طاعون الأحزاب
الذين نظّروا لـ”الجمهور” هم انطونيو ناقري في “امبراطورية” و”الجمهور” وباولو فيرنو في “la grammaire de la multitude”. في الحقيقة “الجمهور” او “الشعب” هو خلاف بين سبينوزا وهوبس، “حين يتمرد المواطنون ضد الدولة فهم الجمهور ضد الشعب” (هوبس في المواطن). نلاحظ ان “الشعب” مرادف للخضوع للدولة والجمهور هو من يثور عليها -وعلى الأحزاب- الجمهور ليس هو “العامة” التي تقابل الخاصة او الفقهاء. انه “الناس” او “الجموع” كمفهوم يقوم على الاختلاف (لا قيمة هنا للمعتقدات الخاصة بالافراد أو اعمارهم او مهنهم). يقوم على المشترك المواطني: الشغل/ الحرية/ الكرامة/ مقاومة الفساد/ الصحة/ النقل. المشترك بيولوجي وإنساني ولا صلة له بسرديات الخلاص الكبرى. ايضا: الجمهور غير هرمي وبلا قيادة لانه يستغل شبكات التواصل المعاصرة. انه ذوات حرة تحدد أهدافها المشتركة وتتحرك جماعيا وليس هناك ابوّة لفعل ما. بخلاف الحزب الذي يختزل المتعدد في الواحد وحيث نرتقي من القواعد إلى المكاتب الجهوية ثم المكتب السياسي ثم التنفيذي ثم الامين العام، فإن الجمهور يتكون من تفرّدات تحافظ على اختلافاتها وحريتها الفكرية ومع ذلك قادرة على التفكير والعمل وتحقيق اشواقها المشتركة، “إنها شبكة مفتوحة وقابلة للتوسع وبامكان كل الاختلافات التعبير عن نفسها وهي بذلك أكثر فاعلية في تحقيق المشترك” (multitude.p 7).
علينا أن نلاحظ منذ 2011 اسبقية الجمهور في الوعي وفي الفعل على الأحزاب والنقابات، سواء كان في تونس او بلدان الثورات العربية او في العالم. كما علينا ملاحظة العداء الشديد والتوجس والتشكيك والتشويه الذي تمارسه أجهزة الضبط الهووية (أحزاب- طوائف- نقابات- دول) تجاه “ثورات الجموع. انه يفتك منها الفعل ويستقطب مزيدا من الأفراد. انتصار المختلف على المؤتلف، انتصار الذات على الهوية، انتصار الجمهور على الشعب. انه فشل الدولة الحديثة بعد أن سطا عليها الراسمال الفاسد وعرّاها من سردياتها فأعادها إلى نشأتها الأولى: مجرد جهاز قمع وإقصاء واستبعاد.
لقد اصبحت الاحزاب ككنائس في ديانة مهجورة تقدم صلوات في غير أوقاتها.

لمزيد التعمق:
– M. Foucault ” Histoire de la folie”
“Surveiller et punir”
P.Virno” la grammaire de la multitude”
G.Deleuze et F.Guattari” capitalisme et schizophrenie”
A.Negri ” Empire” et ” multitude”

Exit mobile version