الخِزْيُ والعارُ للحياديين

محمد مختار الشنقيطي

أوراق الربيع (51).. 

في كتابه القيم: “مذكرات علي عزت بيغوفيتش.. الرئيس السابق لجمهورية البوسنة والهرسك”، يكشف البحَّاثة والمترجم المصري الدكتور محمد يوسف عدس عن جانب خفيٍّ من جوانب مأساة المسلمين في البوسنة أثناء حرب الإبادة التي تعرضوا لها في التسعينات، وهو حيادُ بعض المثقفين المسلمين في البوسنة خلال تلك المعركة الوجودية التي دارت رحاها على أرضهم، وكادت تستأصل شعبهم من جذوره. ويصف الدكتور عدس أولئك المثقفين بأنهم ممن “أصيبوا بضمورٍ شديد في حاسَّة الانتماء الفطري، فصنعوا لأنفسهم هويةً زائفة وانتماءاتٍ أنانيةً من صُنْع أوهامهم…”.

كان المسلمون في البوسنة يواجهون إبادة تحت سمع وبصر العالم على أيدي الميليشيات الصربية، التي دعمتها روسيا بمجاهرة وفجاجة، وتواطأت معها الحكومات الأوروبية حرصاً على عدم ظهور دولة مسلمة داخل أوروبا، ووفَّر لها بطرس بطرس غالي، الأمين العام للأمم المتحدة يومها، المظلة الشرعية بسبب تحيزاته الدينية والطائفية، وظل مُصرًّا حتى نهاية حياته على المساواة بين الجاني والضحية، وعلى أن “المسؤولية مشتركة بين كافة الأطراف المعنية” في تلك الحرب، كما قال في برنامج (بلا حدود) على قناة الجزيرة.

لكن الأشد مرارة من كل ذلك كان حياد بعض المثقفين المسلمين من البوسنيين أنفسهم، من أولئك الذين لاحظ الدكتور عدس أنهم ظلوا “يدورون في دوائرَ مغلقة حول مشكلات الحرب والقتل والاغتصاب، ولكن لا يستطيعون أن يصرِّحوا بوضوح: من الذي يَقتُل، من الذي يطلق الرصاص، من المعتدِي ومن الضحية.” وكان علي عزت بيغوفيتش مثقفا ذا ذهن وقّاد، وضمير حيٍّ مُفعم بمعاني العزة والحق والعدل، فمقَتَ استعلاءَ أولئك المثقفين على شعبهم، واحتقر جُبْنَهم عن مواجهة التحديات، وتهرُّبَهم من اتخاذ موقف أخلاقي ناصع، رغم وضوح وجه العدالة في قضية شعبهم، وبشاعة الفظائع المسلَّطة عليه.

ويذكر الدكتور عدس أن بيغوفيتش اعتاد زيارة المدارس أثناء الحرب -وهو رئيسٌ لجمهورية البوسنة- والحوارَ مع الأطفال لطمأنتهم وإيناسهم، والتخفيف من أهوال القتال على نفوسهم الطريَّة. وقد أدرك بيغوفيتش أن الأطفال بفطرتهم النقيَّة أعمقُ فهماً وأنصعُ موقفاً من أولئك المثقفين المتحذلقين، ذوي الروح الاستعلائية، والألسنة الطويلة، والضمائر البليدة. وكتب بيغوفيتش في مذكراته عن ذلك يقول: “أجِدُ الأطفال رؤيتُهم شديدة الوضوح فيما يتعلق بوطنهم البوسنة، وعن الشعب الذي ينتمون إليه. هذه المفاهيم واضحة في عقولهم وضوحا لا لبس فيه. بينما أسمع من بعض المثقفين ثرثرةً يقال فيها: (أنا محايد، الحرب لا تعنيني، أنا فوق هذا كله).”

ثم يعلق بيغوفيتش بنبرة مريرة ساخرة من استعلاء أولئك المثقفين المتبلِّدين فيقول: “هؤلاء المثقفون المحايدون دائماً فوقَ شيءٍ ما، خارجَ شيءٍ ما، حتى مع هذا الصراع الدموي الذي قُتل فيه الأطفال، واغتُصبت النساء، هم محايدون. فهل يمكن أن يكون لأي إنسان حقٌّ فى الحياد أمام هذا الوضع المأساوي؟!” ثم يضيف بيغوفيتش: “هذا وقتُ نضالٍ، لا وقتَ حياد وسلبية، فالخير والشر لم يتصادما [قطُّ] بمثل هذا الوضوح الشديد، حتى الأعمى يستطيع أن يميز بين هذا وذاك، ولكن هؤلاء المثقفين محايدون، فيا للعار!!”

والغريب ما لاحظه الدكتور عدس من أن أولئك المثقفين الجبناء المحايدين في وقت الحرب، تخلَّوا عن حيادهم في وقت السلم بعد نهاية الحرب مباشرة، و”تبنَّوْا كل المقولات الأجنبية عن الإسلام والمسلمين، وأصبحوا أداة نشطة في إطلاق الأكاذيب والافتراءات على حزب العمل الديمقراطي، وعلى الرئيس عزت بيغوفيتش، وعلى أسرته”!! ويذكِّرنا هذا الموقف ببعض المثقفين العرب الذين لو يقِفوا قطُّ موقفا يَغيظ مستبدًّا، ولا نطقوا قطُّ بكلمة تعكِّر مزاجَ ظالمٍ، لكنهم إذا ذُكر الثوار الأحرار من الساعين إلى رفع الظلم الداخلي والخارجي عن الأمة، انتقصوا كلَّ مكاسبهم، وانتقدوا كل سلوكهم!!

كما يذكِّرنا هذا الموقف ببعض المفكرين “الإسلاميين” الذين لم يتمعَّرْ وجْهُ أحدهم قطُّ غيرةً على دين الإسلام، ولا نطق بكلمة نُصرةً لمسلم مظلوم، لكن إذا ذُكرَت الحركات الإسلامية، الساعية إلى القيام بالقسط، الباذلة للدم والمال والأعمار في سجون الظلمة من أجل إحقاق الحق ورفع الظلم عن المسلمين.. سلقوها بألسنةٍ حِدادٍ، وخاضوا في أعراضها بتوسُّع وشماتة! ولو أن هؤلاء المتحذلقين منحوا خطايا الظالم مثل ما منحوا أخطاء المظلوم من انشغال واهتمام لكان لموقفهم وجهُ اعتبارٍ، أمَّا الانشغال الكامل بأخطاء المظلوم عن خطايا الظالم، فلا يفعله إلا جاهلٌ لا عقلَ له، أو بليدٌ لا ضميرَ له، أو جبانٌ يتستَّر وراء التفلسف وطول اللسان.

وعلى نحو ما لاحظ بيغوفيتش هذا الإفلاس الأخلاقي لدى المثقفين الحياديين، لاحظه أيضا الدكتور عبد الوهاب المسيري في تقديمه لكتاب الدكتور جمال حمدان: “اليهود أنثروبولوجيًّا”. وقد كان كل من المسيري وحمدان مثالاً للمثقف ذي الضمير الحيِّ، والموقف الأخلاقي الملتزم. وقد أشاد المسيري بحمدان في هذا المضمار تحديداً، وأوضح الفرق بينه وبين مثقفين آخرين، جعلوا أكبرَ همِّهم تحسينَ سيرتهم الأكاديمية، وحصروا غاية هِمَّتهم في الحصول على ترقية. يقول المسيري: “كلُّ كتابات جمال حمدان ليست دراسات أكاديمية بالمعنى السلبي للكلمة، أيْ الدراسة التي يكتبها أحد المتخصصين الأكاديميين دونما سبب واضح، ولا تتَّسم بأي شيء سوى أنها صالحة للنشر، لأن صاحبها اتَّبع مجموعة من الأعراف والآليات البحثية، من توثيق ومَراجع وعنعنات علمية موضوعية، تم الاتفاق عليها بين مجموعة من المتخصصين والعلماء. والهدف عادة من مثل هذه الكتابات -التي يُقال لها (أبحاث) مع أنها لا تنبع من أية معاناة حقيقية ولا تشكل (بحثا) عن أي شيء- هو زيادة عدد الدراسات التى تضمها السيرة العلمية للأكاديمي صاحب الدراسة، فتتم ترقيته.”

ثم يسخر المسيري من داء التبلد الأخلاقي والحيادية السلبية لدى بعض هؤلاء المثقفين، الذين ينحصر طموحهم في الانضمام إلى محفل “المجلس الأعلى لشؤون اللاشيء الأكاديمي”، ويهملون رسالتهم الأخلاقية والإنسانية في سبيل ذلك. وتشبه السخرية المريرة التي يعبّر بها المسيري عن ذلك بسخرية علي عزت بيغوفيتش من أولئك المثقفين المسلمين في البوسنة الذين هم دائما “فوقَ شيءٍ ما، خارجَ شيءٍ ما”! يقول المسيري: “قد تقوم الدنيا ثم تقعد، وقد يُقتل الأبرياء، وينتصر الظلم، وينتشر الظلام، وصاحب (البحث) لا يزال يكتب ويوثق ويعنعن وينشر، ثم يكتب ويوثِّق ويعنعن وينشر. وتدور المطابع، وتسيل الأحبار، ويخرج المزيد من الكتب، ثم يذهب صاحبنا إلى المؤتمرات التى تُقرأ فيها (أبحاثٌ) أكاديمية لا (تبحث) عن شيء، ليزداد لمعاناً وتألقاً، إلى أن يُعيَّن رئيسَ المجلس الأعلى لشئون اللاشيء الأكاديمي، يتحرك في عالَمٍ خالٍ من أيّ هموم إنسانية حقيقية، عالَمٍ خال من نبض الحياة: رماديةٌ كالحةٌ هى هذه المعرفة الأكاديمية، وذهبيةٌ خضراءُ هى شجرة المعرفة الحيَّة المورِقة”.

لم يكن حمدان ولا المسيري جاهلاً بالتقاليد الأكاديمية، ولا غافلا عن أدوات التوثيق العلمي، بل كان كل منهما متمرِّسا بالصنْعة الأكاديمية، ملتزماً بأدواتها وفنِّياتها. لكن همَّة الرجلين كانت أرْفعَ من أن يستأسر للشكليات، أو يجعل من الوسائلَ غاياتٍ، أو أن يتخلَّى عن رسالته الأخلاقية والإنسانية بحثا عن مجد شخصي، وسعياً إلى احتلال مساحة مرموقة في عالم “اللاشيء الأكاديمي” حسب تعبير المسيري. يقول المسيري: “كتابات جمال حمدان ليس دراسات أكاديمية بهذا المعنى، وإنما هى دراسات عميقة، كتبها مثقف مصري صاحب موقف، لا يكتب إلا انطلاقاً من لحظة معاناة وكشف. وهو لا شك يتبَّع معظم الأعراف الأكاديمية، ويستخدم كل الآليات البحثية من توثيق وعنعنة، ولكن الآليات هى مجرد آليات، والوسائل لا تتحول أبداً إلى غايات، والمعلومات [في كتاباته] موجودة وبكثرة (وربما تفوق بمراحل ما تأتي به المراجع المعلوماتية)، ولكنها مجرد معلومات. فنقطة البدء هى قلقٌ وجوديٌّ عميقٌ، أدَّى إلى ظهور مشروع فكرى متكامل، والهدف يظل دائماً هو الوصول إلى الحقيقة، وكيف يمكن تحويل الحقيقة إلى عدل.”

هذا الموقف الإنساني، والالتزام الأخلاقي بقضايا الحق والعدل، هو الذي منح جمال حمدان عمقه الفكري، وجعل أفكاره أفكاراً حية من لحم ودم، فكان مفكرا حقاًّ، لا مجرد ناقل لأفكار الآخرين، كما لاحظ المسيري: “فجمال حمدان صاحب فكر، وليس ناقلاً للأفكار، مثل عدد لا يُستهان به ممن يُسمُّون بالمفكرين في بلادنا، ممن جعلوا همَّهم نقْلَ آخر فكرة وآخر صيحة، عادةً من الغرب… صاحب الفكر هو إنسان قد طوَّر منظومة فكرية تتسم أجزاؤها بقدر من الترابط والاتساق الداخلى (فهي تعبِّر عن قلقه وآماله)، ويكمن وراءها نموذج معرفيٌّ واحد، رؤية واحدة للكون. أما ناقل الأفكار، فهو إنسان ينقل أفكاراً متناثرة لا يربطها بالضرورة رابط، وتنتمي كل فكرة إلى منظومة فكرية مستقلة. وما يحدث فى كثير من الدراسات الأكاديمية أن كاتبيها يقومون بنقل الأفكار المتباينة ويعرضون لها، دون إدراك للنموذج المعرفي الكامن وراءها، أو مع إدراك كامل له دون أن يكترثوا بتضميناته وتطبيقاته، فمهمتهم هى النقل (حتى نلحق بركب الحضارة الغربية)، نقل كل شيء بأمانة شديدة، وحياد أشدَّ، وموضوعية متلقِّية، هى فى واقع الأمر تعبيرٌ عن موت القلب والعقل، والضمير والهوية، والقدرة على الاجتهاد… إذ يحل التفكير السهل المباشر من خلال الكمِّ المُصْمَت محلَّ التفكير المركَّب من خلال الرؤية والهوية والحُلم والأمل، ويصبح التلقي المهزوم والإذعان (الموضوعي) للأمر الواقع بديلاً لمحاولة رصد الواقع بأمل تغييره، وإعادة صياغته.”، فالخزي والعار للحياديين من “المفكرين” و”المثقفين”، المجرَّدين من المعاناة الوجودية والعمق الإنساني، الغافلين عن قضايا الحق والعدل والخير والجمال.

مدونات الجزيرة

Exit mobile version