لم أكن أحمل كاميرا لأصوّرها..
منجي الفرحاني
وصلت إلى المقهى.. جلست متحسّرا على مشاهد حصلت أمام عينيّ ولم أكن أحمل كاميرا لأصوّرها..
حركة غير عاديّة في الشّارع الموصل إلى المقهى..
المتسوّلة الشّابّة هناك تُرضغ شيخا صغيرا تحت ظلّ كوم زبالة قبالة المصحّة المعمورة يمين المسجد المهجور يسار الحمّام النّجس تحت لافتة كتب عليها: “الله لا يرحم والديه الّي يحطّ الزّبلة في القصر”..
الرّجل الأربعينيّ أمامي يصرخ في هاتفه: “راك جمعة كاملة توكّل فيّا في الملوخيّة البايتة يا خرا.. والله لا كليتها اليوم” ثم يغلق في وجه من أظنّها زوجته الهاتف ويسبّ الجلالة قبل أن يلتفت إلى فتاة تقف صامتة على واجهة أحد الدكاكين ويصرخ في وجهها: “سكّر دين أمّ فمّك”..
صديقي البوزيديّ على هاتفي يقول إنّ البقر قد تشابه عليه أمام المسرح البلديّ ولم يتعرّف على حبيبة الفايسبوك التي واعدته هناك وأنّه يتمنّي ألاّ تكون التي تقف غير بعيد من حيث لا تراه:
– والله كأنّها هي بشحمها ولحمها ولكن قادمة من المستقبل.. خدعتني بصورة بروفيلها التي تعود إلى عشرين من السّنين والكيلوغرامات ولّت.. آش نعمل صاحبي؟ نڨطّع؟
– اعمل قهوة صاحبي وقيلني.. طبعا لا أقصدها عربيّة فصحى فلا سلطة لك عليّ كي تقيلني من أيّ حكومة في دماغك ..
ثمّ أغلقت في وجهه هاتفي الذكيّ وتركته يمثّل مشهدا من فيلم “الهروب” لأحمد زكي..
سائق الميترو أوقفه في قلب الشّارع ونزل يشتري دواء من الصيدليّة الوحيدة في المدينة التي تبيع دواء الكلب وترك الركّاب يتمنّون أن يعود بسرعة ولا يفعلها مثل زميله قبل أسبوع عندما أوقف الميترو ونزل يشرب قهوته اليوميّة ويدخّن شيشته المفضّلة بطعم التفّاح..
شابّ سكران يصرّ أن يترنّح يمينا وكلّما قذفته بنت العنب يسارا سبّ الجلالة والبلاد والملّة واستغفر مردّدا: يا ربّي توب عليّ من المعصية راني نحبّك.. راني نحبّ دين ربّ محمّد.. ثم يخرج هاتفه ويجيب: سامحني أمّي شربت… والله شربت… وتكيّفت يا أميّ.. راهو شي يكيّف البهايم…
موظّف البنك صاحب الكرش من خلف وأمام وربطة العنق البالية يتّفق بصوت عال مع زبون على خدعة للحصول على قرض لإنجاز مشروع وهميّ ثمّ اقتسام الغنيمة ثمّ يتدارك أمره عندما يتذكّر أنّ الزمان زمان الأحرار:
– اسمعني خلّي الأمر يستراح.. قيس سعيّد هذا بدا ينظّف في الدروج من فوق وأكيد باش يهبطلنا..
ثلاثة طالبات يمشين على الرّصيف هونا.. الأولى ترتدي حجابا على أحمر شفاه فاقع وكلصون والثانية سروالها ممزّق التفاصيل لا يخفي من أفخاضها إلاّ قليلا والثّالثة ممّا خلّف السّبع..
فجأة صاحت إحداهن:
– محلاه الزحّ، رغم كبير ومعرّس!
تقصد أستاذهنّ الذي اعترضهنّ صدفة..
على مؤخّرة الميترو الذي تحرّك بعد عودة سائقة لافتة كبيرة كتب عليها: “المتحرّش ما يطلعش معانا..”
متحرّش نشّال يقبّل صاحبة الحجاب من أحمر شفاهها ويخطف هاتف ما حلّف السّبع ويختفي وسط الزّحام..
وصلت إلى المقهى.. جلست متحسّرا على مشاهد حصلت أمام عينيّ ولم أكن أحمل كاميرا لأصوّرها..
– اكسبراس كي العادة صاحبي؟
– تي قهوة عربي وبرّا لا تربّحك انشالله.. قريب أربعة سنين نجي للقهوة ولتوا ما تعلّمت؟
صوت بداخلي.. ذلك الصوت الذي ينكّد عليّ حياتي وكأنّه هادم اللذّات يلومني على تعليقي بيني وبيني على ما رأيت في الشّارع وعلى ندمي على فوات فرصة التّصوير.. يقول إنّه كان حريّا بي أن أبكي على حال بلادي..
– تي روح رهّز مانيش ناقصك مستر ضمير.. حالة الوعي ستكنس تعاسة المشهد ولو بعد حين..
الأخبار على القنوات والمواقع والجرائد الصفراء تشير إلى حالة رعب تعيشها الأنظمة العربيّة المستبدّة المتبقيّة والرّاعية الرسميّة للثورات المضادّة بعد أن ضيّق عليها الأحرار الخناق حتّى تحوّلت إلى حيطان مبكي..
أمّا الأخبار في القنوات والمواقع والجرائد الحرّة في كلّ شبر عربيّ وعالميّ فهي تشيد بثورة الصّندوق في تونس وصحوة شبابها الذي قرّر كنس أكياس الزّبالة الجاثمة على صدره منذ عقود برعاية السّيستام الرّجيم.. ثورة ألهمت شعوب عربيّة للثورة ضد الفساد والطائفيّة المقيتة وأحذية العسكر..
عندما أشار المذيع إلى نهاية نشرة آخر أيام أكتوبر صاح موظّف أثقل جيبه وملامحه غلاء المعيشة على الطّاولة المجاورة:
– 31 أكتوبر ولتوا ما صبّوش؟
نظرت في قاع فنجاني.. لم تصل صاحبة العيون العربيّة العسليّة.. رأيتني وحدي أراقص جمجمتي وأحمل رأسي بين يديّ.. أنفض ما علق فيه من وجع الوطن.. أمّا قلبي فلم يبالي بما يدور حوله رغم أنّه موطن الوجع..
كان ينتظرها كي يراقصها عندما تأتي مع الرّشفة الأخيرة من قهوتي العربيّة.. أمّا أنا فقد سئمت حماقاتها المتواصلة وعنادها السّخيف..
من “مقهى العبث” للمنجي الفرحاني