فنون التشكيل و “التشليك”
فتحي الشوك
في صبانا وفي زمن المحبرة والريشة والجفّاف واللوحة والطباشير ومسعودة و”الشلاكة” والحذاء الرياضي “الغزالة” لمن استطاع اليه سبيلا والمحفظة والمنديل الّلذان يشهدان على أوّل فرد في العائلة عتب المدرسة ليتسلّمهما من يليه، كنّا في خطواتنا الأولى نتحسّس الأشياء ونتعرّف على الموجودات، كانت من بين التمارين الّتي طالما تدرّبنا عليها هي التعرّف على العناصر وإيجاد العلاقة بينها لضمّها في مجموعات… اربط بسهم… شكّل مجموعة… هي بعض الأساليب الّتي شكّلت منطقنا في البحث عن علاقة ارتباطية بين العناصر المختلفة فكانت من دواعي قهقهاتنا البريئة أن يجعل أحدنا أرنبا في مجموعة واحدة مع عصفور أو كرة مع أقلام… في زمن الأوراق النقدية المزيفة والأقراص والأعواد والغمّيضة و”الخطّة” و”الكريدة” والسبع حجرات والكجّات والخذروف، كانت من أصعب المسائل أن يملى علينا نصّا ونطالب بشكله لتكتشف صعوباتنا في الإعراب والنّحو والصرف ومطبّات الرّفع والكسر والنّصب والتنوين والمدّ والهمزة التي لا يستقرّ لها مقاما، على الواو أو الياء أو السّطر.
في زمن تلك المقاعد الخشبية وشجر التّوت والسّاحة و”الكونتينة” والصفّ المنضبط والجرس والمعلّم الّذي لا نعلم فوق مقامه مقاما، كنّا نتشكّل بشكل جعل أغلبيّتنا تتعاطى ايجابيا على ما اعترضتها من إشكاليات في طريقها وبطريقة تجاوزت التّسطيح والشّكليات.
في ذاك الزمن الجميل، من كان غالبيتنا ينتعل “الشلاكة” لم “نشلّك” أحدا خصوصا من علّمونا الكلمات.
الشكل والتشكيل والاشكال والمشاكل كنا نعرفها كما في مجالها بمعانيها حتّى تشوّهت في زمن اغتصاب المعاني والكلمات.
التّشكيل مثلا صار معنى لأن يصطاد أحدهم احداهنّ في شراكه ويجعلها في “شكلة” أو أن تفعل احداهن بالمثل مع أحدهم. وصار مثلا يعلّق أحدهم على أنّ فلان أطاح بفلانة صريعة ليأكلها حتّى التّخمة ثمّ خرج متفسّحا يبحث عن صحن تونسي أو دجاجة ينكحها.
لخبطة أصابت فتحاتنا القطبية ولا عجب حين صار الضراط تعبيرا وكشف الأرداف والصّدور حداثة وتفكيرا!
والتشكيلة هي التسمية التي تطلق على عملية المطاردة والاصطياد وهي كذلك صارت في مخيالنا أسماء من استدعوا لتمثيل فريق ما في كرة القدم أو احدى الألعاب الجماعية، أمّا عن التشكيلة الحكومية فلم تكن إلى زمن قريب من صلب اهتماماتنا إذ كانت من مجالات من يحكموننا قضاء وقدرا وبالحديد والنّار.
ومن المضحكات المبكيات أنّه بعد أن تنفّسنا نسيم الحرّية وامتلكنا بعض القرار يحنّ بعض الديناصورات الى نفس المسار.
والغريب أنّه في زمن الأحذية الجميلة اللمّاعة وانقراض “الشلايك” ذات الوظيفة المعلومة تبرز أخرى تنتعلها الرؤوس لتقوم “بتشليك” أيّ فعل وأيّ شيء بل أنّها وبنظرتها الدونية للآخرين تسعى لإعادة تشكيل الشخصية القاعدية للتونسي القاصر والعاجز على أن يفكّر ويتّخذ قرارا لتتولّى التفكير نيابة عنه.
تقول الأسطورة في سرديتها المتخيّلة وصورتها المتعالية أنّ التونسي أو التونسية باستطاعتهما “تشكيل” أيّ شيء حتّى ولو كان قردا أو قردة وكثيرة هي نكتنا المتداولة الّتي تسخر من أشباهنا وتنتصر على اليابانيين وحتّى الأمريكان! فكيف لا يقدرون على تشكيل حكومة؟ ألهذه الدرجة هي قبيحة رقطاء حدباء ذات لسان سليط وفم أبخر، تنفّر من يقتربها ولا شيء فيها يعجب؟
لا يغرنّكم ذاك الصّياح و”الهياط” والهرج والمرج والضّوضاء وكلّ ذاك الغنج والتمنّع، فالممانعة دوما ما تفرز الهرمونات لتؤدّي إلى المماتعة بعد لحظات معاتبة.
ستتشكّل الحكومة لأنّ التّونسي تمرّس بفنون التّشكيل والفنّ التشكيلي بصفة عامة.
وتبقى تونس الّتي لا تشبه أخواتها في محيط التصحّر والتحنّط قادرة على أن تعبر بتجربتها الفريدة إلى برّ الأمان لتكون دوما هي الاستثناء.