فتحي الشوك
كانت لأمين عام حزب الله السّيد حسن نصر الله إطلالة ثانية بعد أولى منذ بضعة أيّام بدا فيها أكثر تشنّجا وأقلّ تفهّما لما يجري من حراك شعبيّ في لبنان، لم يهدأ ولم تهفت جذوته منذ انطلاق شرارته في 17 تشرين الأوّل 2019، انتفاضة غير مسبوقة في تاريخ لبنان الحديث تسعى إلى تغيير جذري لنظام ريعي كانت أسسه المحاصصة الطّائفية لم يبن وطنا بل أنتج كنتونات وأثمر فشلا وأزمات.
خُدعنا بمن خَدعنا بالمقاومة:
كانت كلمات نصر الله منتظرة ولم تخرج عمّا اعتدنا سماعه منه وهو يتكلّم متخفّيا من وراء الشّاشات ولم يتغيّر في المشهد سوى العلم اللبناني الّذي أخذ مكان علم حزبه لأوّل مرّة منذ سنوات وقد يكون ذلك تقيّة أو لبعث بعض التّطمينات.
يبدو أنّ حالة الوعي الّتي أنشأها الحراك الشّامل والعابر للطّوائف والمناطق والّذي تبلور في شعارات منها “كلكن يعني كلكن ونصر الله واحد منهن” قد أحرجت سماحة السّيد ليفقد ثباته الانفعالى فيلوّح مهدّدا بسبّابته كلّ من يفكّر في أن يخون العهد، ومخوّنا بعض النّاشطين متّهما إيّاهم بالولاء لأطراف خارجية، سلوك وخطاب لا يختلف عمّا يبدر من كلّ الطّغاة في مواجهتهم لحراك الشّعوب والثورات.
اختزل البعض لغاية في نفس يعقوب الحراك الشعبي الرّائع في لبنان في بعض مشاهد الرّقص والغناء ووجوه الجميلات اللاّتي اختطفن الأنظار ليتغزّلوا بمحاسنهنّ متناسين المضامين وسموّ الرّسالات وغاضّين الأبصار عن أنّ نصف شعب لبنان خرج ليملأ الميادين والسّاحات، في بيروت وطرابلس وعكار وصور والنّبطية وزحلة وعاليه في كلّ شبر من بلد الأرز موطن الحضارات.
اقتراح رسوم على الخدمة الصوتية لتطبيق “الواتساب” للهواتف الذّكية كانت الشرارة لاندلاع الحراك والقطرة الّتي أفاضت كأس الاحتقان الشّعبي، كانت ردّة فعل الشّعب اللّبناني قويّة بشكل غير متوقّع، انتشرت الاحتجاجات بسرعة كما النّار في الهشيم ممّا أربك الطبقة السياسية واضطرّها للمسايرة والتّماهي وإبداء التفهّم امتصاصا لقوّة الصّدمة، وهو ما يشير إلى كمٍّ كبير من المشكلات البنيوية السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتراكمة منذ استقلال لبنان وإعلان الميثاق الوطني سنة 1943 والّتي تعمّقت بالحرب الأهلية لتنفرج ظاهريا بعد اتّفاق الطّائف ثمّ لتنفجر بعد اغتيال الحريري سنة 2005.
كانت أغلب الحلول ترقيعيّة وبوصاية أجنبيّة لينقسم الوطن المفتّت بين تجاذبات قطبيّة بين الولايات المتّحدة وفرنسا والسّعودية الدّاعمة لتيّار 14 آذار وبين إيران وسوريا الّلتين تسندان معسكر 8 آذار، ليكتشف الشّعب الفشل البنيوي الشّديد الّذي يعتري المنظومة المشوّهة القائمة على أساس المحاصصة الطّائفية يتمّ فيها اقتسام السّلطة والثروات واحتكارها وتوزيعها حسب الانتماء والولاءات مستبعدة كلّ معايير الكفاءة والأهلية.
أزمات هيكليّة عميقة أدّت إلى مراكمة الفشل وتجلّت في جميع المجالات، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، لتبلغ ذروتها في الآونة الأخيرة بعد أن مسّ الضّرر تقريبا جميع الفئات في المجتمع اللبناني، بلغ الدّين العام 85 مليار دولار أي حوالي 150 في المائة من النّاتج المحلّي الإجمالي ليفقّر الغالبية لصالح أقلّية صارت تمتلك مجمل الثروات.
وضعية كارثية أدّت في نهاية المطاف إلى توحيد اللّبنانيين وتجاوز انقساماتهم الدّاخلية والطّائفية، ورواسب الحرب الأهلية ليخرجوا إلى الشّارع في كلّ ربوع لبنان مطالبين بإسقاط النّظام الرّيعي المفسد الفاسد وبرحيل كلّ الطّبقة السّياسية المنتفعة منه ولم تستثن في ذلك أحدا بما فيهم حسن نصر الله ممّا أثار حفيظته واستثار أنصاره ليدفعهم إلى الذّود عن سماحته ورمزيّة مكانته كما رماهم سابقا كحطب في محرقة سوريا، المأساة المنسية الّتي ذهب ضحيّتها ملايين البشر بين قتيل وجريح ومشرّد.
الحاضنة الشّعبية لحزب الله كانت مشاركة في التّظاهرات منذ بدايتها وهي كجزء من الشعب اللبناني اكتوت بما اكتوى به الجميع ويبدو أنّ عنجهية السيد حسن نصر الله وصلفه ونرجسيته وولاءه الأعمى لوليّ نعمته، الوليّ الفقيه جعله لا يدرك أنّه بصدد فقدان تلك الحاضنة الّتي تحتاجها المقاومة الّتي يدّعيها بعد أن فقد شعبيته لدى غالبية الشّارع العربي منذ انخراطه في تقتيل الشعب السوري مساندة للطّاغية بشّار الأسد وسمعا وطاعة لملالي طهران.
وهو الآن يهدّد كلّ من يفكّر في أن يقترب من المعبد أو يناقش بروتوكولات العهد متّهما الثّوار بأنّهم مموّلون من جهات أجنبية ومرسلا “شبّيحته” أصحاب السترات السّوداء ليرهبوا المتظاهرين و ليكونوا عسسا عمّن يتطاول على قداسته.
هي اسطوانة المؤامرة المشروخة الّتي يستدعيها كلّ الطّغاة كلّما انتفض الخاضعون لمجال طغيانهم وتطلّعوا للحياة
إرادة الشّعوب لا تقهر:
الوضع اللّبناني جدّ معقّد ولا يغرّنّكم حاليا جمال المشهد، وقد تؤول الأمور لا سمح الله إلى ما لا تحمد عقباه، فحزب الله المسلّح ليس الوحيد المختطف للدّولة وليس وحده من ينفّذ أجندات خارجية، فالمسلّحون كثر وأغلب الولاءات هي للخارج لتصبح لبنان ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدّولية على حساب شعبه.
فإن كان قادة معسكر 8 آذار قد اختاروا حضن طهران فان قيادة فريق 14 آذار خيّروا الغرب والسّعودية.
والعجيب في الأمر أنّ بعض من يشجّعون الحراك الشّعبي إعلاميا في لبنان أو في العراق يكفرون بالثّورات ويجرّمونها في بلدانهم ويسعون لإجهاضها في بلدان أخرى كتونس الّتي لا تشبه أخواتها، وليبيا والسّودان والجزائر بعد أن نجحوا في اغتيالها في مصر وفي وأدها في اليمن.
انتقائية مقيتة وتبادل للأدوار يمارسه الطّغاة، ففريق يستعدي إيران ليرتمي في حضن إسرائيل وآخر يتّخذ من الأخيرة عدوّا ويستنصر بإيران، وكلا الفريقين همّهما الاستمرار في قمع شعوبهم المقهورة والمطحونة الّتي تسرّب إليها نسيم الحرّية واستشعرت إمكانية التغيير مع موجات الربّيع العربي الأوّل ثمّ الثّاني الّذي نعيش أجواءه.
نجاح التجربة التونسية في هزيمة المنظومة القديمة وإيصال الأستاذ قيس سعيد إلى قصر قرطاج عبر ثورة الصّندوق كان وسيكون محفّزا لبقيّة التّجارب، انتفاضات هنا وهناك شرقا وغربا هي حركات لأعضاء في جسم واحد ينتظر قلبه صدمة كهربائية لينتعش ويستعيد خفقانه، هي مصر الّتي ينتظرها الجميع باعتبارها القاطرة والمحرّك. ويكفي أن نلاحظ أنّ الجماهير الّتي خرجت في ميادين الجزائر وليبيا والسّودان ولبنان للاحتجاج وفي تونس للاحتفال قد وحّدها شعار كراهيّة قائد الانقلاب السّيسي مختزلة فيه كلّ صور الطّغيان والخيانة والعمالة وهي بذلك تستحضر مكانة مصر المحوريّة وتستدعيها لأن تسترجعها.
قد تبدو الوضعيّة في لبنان صعبة ومعقّدة وهي كذلك في كلّ البلدان العربيّة الّتي عانت وتعاني من الاستبداد وما يفرّخه من فساد وإرهاب أمام المقاومة الشّرسة للتغيير الّتي تبديها المنظومات القديمة لكنّ التغيير قادم لا محالة وقد لاحت بوادره في وطن أبي القاسم الشّابي صاحب الأبيات الخالدة:
إذا الشّعب يوما أراد الحياة
فلا بدّ أن يستجيب القدر
ولا بدّ لليل أن ينجلي
ولابدّ للقيد أن ينكسر.
إرادة الشّعوب لا تقهر والعجلة إن تحرّكت لا أحد بإمكانه إيقافها.
د.محمّد فتحي الشّوك”