“خذ الكتاب بقوّة”

حسين السنوسي

1. علما وأنّه ليس “سوبرمان” وأنّ صلاحيّاته محدودة وأنّ الظّرف كارثيّ وأنّ “أولاد الحرام” كثيرون في الدّاخل والخارج، أتساءل عمّا يمكن أن يقدّمه الرّئيس قيس السّعيّد إلى هذا البلد وفقرائه وعاطليه والحالمين فيه بغد أفضل لهم ولبلدهم ولأمّتهم ؟

2. بالإمكان طبعا أن ننتظر منه ما نعلم أنّه قادر عليه: أن يعيد بفصاحته بعض احترام إلى اللّغة الوطنيّة وأن يساهم -وهو السّياسيّ المتخلّق- في أخلقة السّياسة وأن يسير أمامنا ومعنا خطوتين -مجرّد خطوتين- في اتّجاه مجتمع القانون، هذا المفهوم الأخلاقيّ والسّياسيّ الذّي يؤسّس للحرّيّة السّياسيّة والإزدهار الإقتصادي والكرامة الإنسانيّة في ذات الآن.

3. بالإمكان أيضا أن نجد له عذرا في ضعف صلاحيّاته ولا ننتظر منه ما لم يكلّفه به الدّستور ونضع الحمل كاملا على ظهر الحكومة القادمة.

  1. بالإمكان أخيرا أن نعرّف ما ننتظر منه تعريفا سلبيّا: أن لا يسقط في “الوطنجيّة” ولا في “القومجيّة” (حسب تعبير أحد الصّحفيّين-مثيري الجدل في السّاحة العربيّة) وأن لا يكون مجرّد “ظاهرة صوتيّة” أو رئيسا أقصى كفاءاته أن يأكل الطّعام ويمشي في الأسواق ويجلس في مقاهي البسطاء ويصلّي مع النّاس في مساجد النّاس.

5. المشكلة هي أنّ إنتظارات الشّعب مختلفة عن هذا وأكبر منه بكثير وأنّ نتائج الإنتخابات نقلتنا -كما كان لا بدّ أن تنقلنا- من “الشّعب يريد رئيسا” إلى “الشّعب يريد من الرّئيس”.

6. الشّعب يريد أوّلا أن يشتغل ويتزوّج وينجب ويعلّم أبناءه فهل يستطيع رئيس الجمهوريّة أن يحقّق له ذلك بشكل مباشر (اعتمادا على صلاحيّاته) أو غير مباشر ؟ قطعا لا. لماذا ؟ لأنّ خزائن الدّولة فارغة فهي لا تستطيع أن تنتدب أو أن تقيم المشاريع الكبرى التي تدير عجلة الإقتصاد.

7. ليس من مهامّ الدّولة أن تنتج أو تشغّل. هذا دور المجتمع عن طريق القطاع الخاصّ. الدّولة تنظّم وتقنّن وتطبّق القوانين وتهيّء البنية التّحتيّة وتأخذ الضّرائب وتضع الإدارة والمرافق العامّة في خدمة المجتمع.

8. الدّولة بقوانينها وأجهزتها تضمن أمن المجتمع وحرّيته والمجتمع يستعمل أمنه وحريّته في ميدان السّياسة وفي غيرها من الميادين.

9. لا تكتمل الثّورة الدّيمقراطيّة حتّى يحصل المجتمع على أمنه وحريّته في ميدان الإقتصاد ولا يبلغ سنّ الرّشد حتّى يستعملهما للخروج من الفقر والتّخلّف.

10. هذه ثورة ثقافيّة لا تستمرّ الثّورة السّياسيّة ولا تستقرّ إلّا بها : لا تنتظرْ من الدّولة ما لا تستطيع أو ما لم تعد تستطيع وابحث عن قوت يومك وجلّ ما تحتاجه في العلاقات الأفقيّة لا في العلاقات العموديّة.

11. نعود إلى السّؤال الذّي بدأنا به حديثنا. ماذا يمكن أن يقدّم الرّئيس قيس السّعيّد إلى هذا البلد وفقرائه وعاطليه والحالمين فيه بغد أفضل لهم ولبلدهم ولأمّتهم ؟

12. على المدى القريب لا يستطيع إلّا القليل، أمّا على المديين المتوسّط والبعيد فيستطيع أن يقود الثّورة الثّقافيّة التّي تجعل المجتمع التّونسي مسؤولا عن نفسه ومزدهرا ومتقدّما.

13. الثّورات تقوم بها الشّعوب ويقودها الزّعماء والشّعب التّونسيّ الذّي لابدّ أن يقوم يهذه الثّورة أعطى الأستاذ قيس السّعيّد فرصة لكي يكون أكثر من رئيس منتخب ومحدود الصّلاحيّات : أعطاه من الأصوات ما يكفي ليجعل منه زعيما.

14. أن تكون زعيما لا مجرّد موظّف برتبة رئيس دولة يسمح لك بأن تجعل من عهدك فاتحة لتغيير -قد يكون بطيئا لكنّه عميق- في العقليّات وأن تكون لك الشّرعيّة الكافية -في الدّاخل والخارج- لكي تتحدّث باسم البلد وأن تسعى إلى إعطائه صورة جديدة ووزنا جديدا ونوعيّة جديدة من العلاقات.

15. أن تكون زعيما يسمح لك أيضا -الآن وهنا- بقيادة المعركة ضدّ الفساد -من قاعدة المجتمع إلى قمّته- وهي خلاصة لكثير من المعارك ضدّ كثير من الأمراض الأخلاقيّة والسّياسيّة والفكريّة والتّنظيميّة التّي تنخر جسد هذا المجتمع.

16. المعركة ضدّ الفساد قد تكون الإمتحان الذّي يكرم فيه الشّعب وزعيمه أو يهانان وقد تكون همزة الوصل بين القليل الممكن في المدى القريب والكثير المأمول في المديين المتوسّط والبعيد.

17. عندما كلّف “ونستون تشرشل” بتكوين الحكومة البريطانيّة سنة 1940 قال لمواطنيه “ليس عندي ما أعدكم به غير الدّم والتّعب والدّموع والعرق” ولولا خشية الوقوع في المبالغة لقلت إنّ ما ينتظرنا في هذه الدّورة الرئاسيّة لا يختلف كثيرا عمّا وعد به تشرشل البريطانيّين.

18. لو كان لي أن أقترح على رئيس الجمهوريّة شعارا للمرحلة لاخترت “خذ الكتاب بقوّة”.

Exit mobile version