ليلى حاج عمر
أفكّر دائما أنّ البلاد تحتاج مفكّرين قادرين على التفكير غير الحاقد، ويزداد تفكيري وأنا أقرأ هنا وهناك مقالات لمفكّرين يتظاهرون بالموضوعية ويخفون تحتها كمّا هائلا من الحقد والغيرة الشديدة الناجمة عن شعور عميق بالإخفاق في فهم مجريات الواقع التي تجري بهم نحو اندثار قراءاتهم وتوقّعاتهم، وتلاشي مواقعهم كمفكّرين أصحاب حظوة. ما حدث لم يكن هينا. وكما هزّ عرش الكثير في السياسة والإعلام، كذلك هزّ عرش مفكّرين اعتقدوا بوثوقية لا تلائم مفكرا انهم الاكثر صوابا.
لم يكن الأمر يحتاج تفكيرا فلسفيا عميقا. بل كان يقتضي فقط الإنصات الى نبض الشارع بقلب الشاعر احيانا وبعقل الفيلسوف حينا وبإحساس الانسان البسيط احيانا اخرى حتى ندرك أن ما حدث ليس مؤامرة كونية على الديمقراطية هنا بل فورة شعبية لنفوس فاض بها الألم. واللجوء إلى أوهام القوى “الغيبية” الخارجية والى التفسيرات الميتافيزيقية الحديثة وإلى ليّ عنق التاريخ المسرع إلى الأمام غير مجد لفهم العاصفة. فللعاصفة أسبابها الموضوعية وهبات الرياح ليست نفخة من السماء وإنما هي نتيجة اختلاجات في الأعماق. اختلاف الضغط داخل المجتمع ونشوء طفرة الوعي.
لقد زعزعت الريح جذوعا قديمة حريّ بها أن تحنى أغصانها قليلا أمام إرادة الجديد في البروز. إنّه قانون الحياة. ومن الغريب أن يغفل عنها مفكّر. ولكن يبدو أنّ تحليل تحوّلات جديدة لامتوقعة بأدوات قديمة وبرؤية القديم وسلطة القديم أفضى إلى مجانبة الصواب، فضلا عن عناد فكري طفولي وخيال شاسع أنتج أوهاما كثيرة في مقاربة المشهد منها وجود قوى “غيبية” داخلية وخارجية تحرّكنا كالأراجوزات.
سيصاب هؤلاء بالدّهشة لو اقتربوا قليلا من الأرض. سيدهشهم كمّ الأفكار التي تينع هذه الأيام في الأذهان وحجم المقترحات ونسبة المشاريع. وسيفاجأون بأنّ “العوام” الذين ينعتونهم بالجهل صاروا منجم أفكار وورشة معاني، وسيدركون أنّ المعنى لا ينتجه المفكّر المسكون بنظرية المؤامرة بل الإنسان الذي يريد الحياة.
حالة كهذه كان سيرافقها في بلدان أخرى مفكّرون يطرحون الأسئلة الحقيقية، ويراقبون الحركة دون خوف وفزع، ويعمّقون المعنى ويرسّخون القيمة ويؤصّلون التجربة. يلتقطون اللحظة ويحولونها إلى فكرة هائلة. كي تستمرّ في التاريخ.
هنا، يقف الشعب وحيدا، يجلده بعض مفكّريه وإعلامييه ومثقفيه، وينظر إليه بقية العالم بإعجاب.
إنّه قدر الغرباء.
وهذا شعب غريب.