الدّيماكس و “الكرونيكور !
خالد كرونة
أنا ما تشاء : أنا الحقير.
شفة البغيّ أعفّ من قلبي، وأجنحة الذباب !
بدر شاكر السيّاب
أتُرانا في «سفينة الحمقى» التي كانت مَحشرَ «المجانين» قبل أن تُلقيَ بهم بعيدا عن المدائن ؟ أليس يتأكّد ما كان ألمع إليه «ميشيل فوكو» في كتابه: «الجنون في العصر الكلاسيكي» الذي نشره سنة 1961 من «إنّها فعلا «كانت حقيقة» ؟
ما تزال اللوحة الممهورة بذات العنوان: «سفينة الحمقى» “ship of fools” تُعرض في متحف اللوفر الباريسي الفاخر، هي لوحة قدّتها بمقاس 33/ 58 سنتمتر ريشة رسّام هولندي سنة 1490 يُدعى «هيرونيموس بوش» حين بلغ الأربعين، شأن الأنبياء يحملون في هذه السّنّ أوزار الرسالات.
وما تزال الحاجة متأكّدة إلى العوْدِ إلى رواية «سفينة الحمقى» التي استلهم صاحبها الألماني «سيباستيان برانت» وقائعها من اللوحة التي ما فتئت بعد قرون مفعمة بالحياة، وما برحت ألوانها زاهية.. فما تختصّ به هذه السفينة أنّ العاقل الوحيد على متنها هو القبطان ! ولا بدّ لهذا الربّان أن يكون ماهرا، عليما بصروف البحر، ينطلق من ميناء «بازل» السويسريّ العتيق ليُخلّص الناس من «حمولته» من «المجانين» وعليه أن يعثر على أرض تحتملهم بعد رحلة لا يدري هو نفسه مداها ولا منتهاها ولا خطّط قبلا لمسارها…
ولأنّ لكلّ عصر ولكلّ مجتمع فُلْكا يجمع «حمقاه»، إمّا أن تصنعه السلطة لتصِم خصومها بالجنون وتلقيَ بهم في غيابات البحر، وإمّا أن تجمعُ أخشابه أحيانا أخرى منعطفات التاريخ التي تحوّلُ بعض من خلنا له عقلا «مجنونا» تصرعه التحولات فيغدو مخبولا تأبى نفسه العنيدة أن تُصالح اتجاه الرياح الجديدة..
ومنذ هبّت على بلادنا الرياح الديسمبريّة المجيدة، سارع من رأى فيها «حُمقا» يهدّد الدولة الرشيدة إلى تشييد سفن بأطوال مختلفة وبأحجام متفاوتة، بعضها جمعيّات للشفافية أو للتشفّي، وبعضها أحزاب للنهوض والترقّي، وبعضها الآخر من الصناديق العجيبة الملوّنة التي باتت أمارة الثورة الاتصاليّة وعنوان الطفرة الإعلامية وهي فضائياتنا التي عهدت إلى ربابنتها بـ »شحننا» في انتظار ترحيلنا نحو «فردوس الحمقى».. ولتبلغ غايتها، كان لا بدّ أن يؤثّثوا مقاسات الشاشات -تماما كما لوحة بوش- بأشخاص غارقين في «خطايا» الغناء والشهوة والشراهة أيضا، ولم يجدوا عناء في ذلك لأنّ مقولات «تلفزيون الواقع» التي عفا عليها الزمن في أمريكا باتت «موضة» هذه الفضائيّات..
ولكن، من أين يأتون بالربّان المُخلّص؟ وأنّى يعثرون عليه؟ وكيف «يضمنون» مهارته؟
تفتّقت عبقريّتهم على شروط ينبغي توفّرها فيه :
- أوّلها أن يكون ذا سحنة قابلة للتلوّن شأن محمل اللوحات، وهكذا ينجذب كلّ «أحمق» إلى ما تتوق إليه نفسه من ألوان..
- والثانية أن يكون له زيّ خاصّ، فقد يلبس لونا لا يفارقه، وقد يضع ياقة لا محيد عنها..
- والثالثة أن يكون له صوتٌ ليس يُغلبُ، فالحمقى -كما قد علمتم- يجب ألاّ يتطاولوا على الربان، ولكم أُسوة بقاهر البحار ماجلان،،
- والرابعة أن تتحرّك منه اليدان، ساعة يلعلع اللسان، حتّى إن كان محض هذيان، خِلوا من أيّ بيان،،
- والخامسة -لضمان بسط السلطان- أن يُواليَ بين وضع النظارات وخلعها لتُكمّلَ المشهديّةَ العينان..
وبقي الآن أن يجدوا للربّان الذي سيُخلّص المدينة من «حمقاها» اسما يليق بالمقام.. ينبغي أن يكون اسما رنّانا يجد له صدى وآذانا.. لنطلق عليه مجازفة لقب «مؤرّخ إخباريّ» أو «كاتب عمود».. ولكنّه نسي الكتابة أو كاد.. فماذا ترانا ندعوه ؟ أليس من المحتوم أن يكون اسما مهيبا ذا فخامة ؟
لحسن الحظّ، أنّ أهل إفريقيّة سادهم من الإفرنج الفرنسيّون.. فلم يجدوا عناء في «توريد» دال لغويّ لا تعوزه الأناقة، فيه شذى عَلِق من العطر الباريسي المشهور.. إنّه «الكرونيكور»..
وهكذا صار لنا في كلّ «محفل» فضائيّ كرونيكور، جلاّب لبدائع الزهور، ثَبْتٌ وقور، وعلّام بوقائع الدهور، لا يخالط قوله بهتان ولا يلحقه زور، تشرّب من نوتيّة البحر خِلّة السرور، ومن خصال الربابنة التعفّف عن الغرور، ومكرُمته الفضلى استذكار المأثور، في غير فحش -معاذ الله- أو فجور.
بيد أنّ كثرة المحطات وشيوع الفضائيّات، ضاعف الحاجة إلى «الكرونيكورات».. صحيح أنّ بعضهم ممّن أوتي علما بأحوال الأمصار أدرك أنّ العالم كلّه «سفينة حمقى» يقودها ربابنة من طينة ترامب الأهوج، فمضى كلّ واحد يدير الزوايا بحسب مقتضيات المقام و وفق تبدّل الأيّام.
أمّا كرونيكور الديماكس فقد خانته الفطنة فلم يلحظ بعين الربان تلبّد الغيوم في السماء، وقرب الرياح والأنواء.. فلم يُرخِ أشرعة السفينة.. غابت عنه سيرة «فاسكو دي قاما» وذهل عن أسطورة «كولمبس» ونسي ما تعلّمه في كلية الآداب بحضرموت التونسية عن سفين «ابن يامن»، بل تنكّر لعبقريّة « نوح » وفلكه المشحون، ومُحيَ من صدره ما ورد في محكم التنزيل »ربّكم الذي يزجي لكم الفلكَ في البحر لتبتغوا من فضله» (الإسراء)،، وأخذته العزّة فأدار الظهر إلى رواية «المصابيح الزرق» لحنّا مينة رغم أنّه «يلعلع» في محيط تلفزيونيّ أزرق بلون السماء فلم يلتمس لنفسه «ياطرا» تهنأ سفينته إلى ثباته، فكان ما كان..
كان أن أظهر ربّان البحار المغوار، ذو الياقة المهذار، كراهته للتنقل برّا فوق اليابسة والأحجار.. وكشف في صفاقة احتقاره «الكريطة» يجرّها الحمار.. ولا جناح عليه في هذا، لولا أنّه قرن في رأسه الدَّوّار، بين «ثورة البرويطة» وبين «كريطة الحمار».. ونفسه التي تعاف «البرويطة» الديسمبريّة وسياقاتها التاريخية، تأبى عليه أن تنضاف إليها «كريطة بوزيدية».. صحيح أنه يحبّ الخشب كالنقّار، ولكنه لا يراه حقيقا بغير شقّ عباب البحار..
وبما أنّه كان يكتب قبيل «عصر البرويطة» بإمضاء «شادي الورداني» عمودا أسبوعيّا يتيما في «الصحافة» يَجْبُرُ قدرته الشرائيّة، تذكّر شدو الناس بالأغنية التراثيّة »يا ماشية للشطّ ع الكريطة» وهي «إهانة» -كما تعلمون- لا يقبلها الربان في حقّ «البحر». والأنكى أنّ السيّدة لا تعتلي «الكريطة» إلاّ لتعيد تصويب دفّة السفينة -وإن قليلا- بخلاف ما أراد قبل أن يُغلبَ على أمره و يغرق مرشّحه الرئاسيّ الألكن، فصاح المسكين صيحته الهوجاء: «تو يرجّعلهم قيس سعيّد كرارطهم ديماكسات» !!!
حضرة الكرونيكور : إنّما تكوّرتْ بعض جهاتك وامتلأت بدلتك بفوائض شحمك بفضل أمثال تلك الفَلاّحة التي تسكب نور أحداقها كي تبصر أنتَ ومن والاك، وإنّما احمرّت منك الوجنتان لأنّها ومثيلاتها من «شعب الله الكرارطي» تطعمك من جوع تدفع هي ثمنه نضارةَ وجهها ونعومةَ يديها.. صحيح أنّ المنكوبة لم تدخل مثلك الجامعات، ولم تسافر ضمن وفود النوفمبريين إلى مهرجانات «كان» و »مصر» و »طنجة» و »أبو ظبي» ووو… ولكنّها فخورة بالبرويطة وبالكريطة.
أمّا أنتَ، فكلّما بصُرتُ بطلعتك البهيّة، تذكّرت البدر.
مهلا، لست أثني على حسنك، فالبدر الذي أذكر هو السيّاب.. هل تعرف قصيدته «المُخبر» ؟
اجعلها مادة -إن شئت- في لعلعتك القادمة،، لقد أنطق المخبرَ الذي يشبهك :
» أنا ما تشاء : أنا اللئيم ، أنا الغبيّ ، أنا الحقود
لكنَّما أنا ما أريد : أنا القويّ ، أنا القدير.
أنا حامل الأغلال في نفسي ، أقيِّد من أشاءُ
بمثلهنّ من الحديد ، واستبيح من الخدود
ومن الجباه أعزُهنَّ . أنا المصير ، أنا القضاء ».
ملاحظة : يحسُن إعفاء المسكين من قراءة المقال، حتى لا يتورّط في عنت اكتشاف لوحة الهولندي ورواية الألماني وأعمال السوري حنّا ودرر العراقي بدر. وخاصة مجاهل «فوكو».. اتركوه فقط يشدو: «يا ماشية للصندوق ع الكريطة» !
اسطرلاب