عبد اللّطيف درباله
هذه الديناميكيّة والنشاط الشعبي المدهش.. وخاصّة بين الشباب.. المتزامنة مع الإنتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة.. والتي وصلت إلى ذروتها خاصّة مع وبعد الدّور الثاني من الإنتخابات الرئاسيّة.. والتصويت بغالبيّة ثلاثة أرباع الشعب التونسي تقريبا لقيس سعيّد.. تدعو إلى التأمّل.. وتطرح أسئلة عميقة..!!
وهي تقدّم في نفس الوقت أجوبة.. وتعطي دلالات..!!
قالوا أنّ الشعب التونسي مستقيل من الحياة العامّة.. وأنّ الشعب التونسي في غالبيّته خامل وكسول.. وسلبيّ ولا مبالي..!!
فخرج الشعب تلقائيّا ودون توجيه من أيّ سلطة.. وبمئات الآلاف.. في مئات الحملات التطوعيّة المختلفة والمتنوّعة.. في كامل أنحاء الجمهوريّة..!!
حملات نظافة.. وتزويق وتزيين في الشوارع والساحات.. وصيانة وإصلاح لمؤسّسات تعليميّة وصحيّة.. ومحاربة للغلاء.. وأعمال خيريّة.. وغيرها الكثير..
وقالوا أنّ هناك حالة عزوف عن المشاركة في الإنتخابات.. وأنّ الشعب لا يحسن ممارسة الديمقراطيّة.. وأنّه سلبيّ اتّجاه الشأن العامّ.. ومستقيل من السياسة..!!
فخرج حوالي 4 مليون مواطن لصندوق الإقتراع في الدّور الثاني من الرئاسيّة..!!
واتّضح أنّ العزوف واللاّمبالاة السياسيّة هي ليست سلبيّة.. وإنّما هي في حدّ ذاتها موقف سلبيّ من الطبقة السياسيّة النّاشطة والظاهرة.. وموقف سلبيّ من غياب الخيار السياسي الإيجابي المغري الذي يستحقّ المشاركة.. ويستحقّ عناء التصويت..!
واتّضح أنّ غالبيّة الشعب متى وجدت شخصا بدا لهم الشخص المناسب.. والمترشّح الأفضل والمقنع.. خرجوا للتّصويت والإقتراع بالملايين..!!
قالوا بأنّ الشعب التونسي في غالبيّته إنتهازيّ و”طمّاع” ويحبّ الفساد ويشجّع وينتخب الفاسدين.!!
فخرج الملايين من التونسيّين خصّيصا ليصوّتوا ضدّ أحد رموز الفساد الإنتهازيّين في الدّور الثاني من الإنتخابات الرئاسيّة.. وليعطوا ثقتهم في مرشّح بدا لهم مستقيما ونزيها ونظيفا وخارج رموز الفساد السياسي المألوف.. وانتخبوه بنسبة تناهز 73 بالمائة كاملة..!!
كما امتنعت غالبيّة الشعب التونسي عن التصويت في الإنتخابات التشريعيّة لأحزاب أغرتهم بالمال والوعود الماديّة.. وصرفت المليارات في حملاتها الإنتخابيّة.. وعملت على إغرائهم وإغوائهم بالوعود الزّائفة وبالحملات الدعائيّة وبالبروباغندا الإعلاميّة..!!
ليبرهن الشعب بأنّه ليس مع الفساد.. وأنّه ليس إنتهازيّا.. وأنّه يبحث عن الحزب أو الشخص المناسب الصادق الذي يستحقّ الثقة.. والذي وعد بأن يحارب الفساد وأن يكون صادقا مع الشّعب..!!
قالوا بأنّ الشعب التونسي ساذج وغبيّ ولا يحسن الإختيار..!!
فطبّقت غالبيّة الشعب بر صندوق الإقتراع.. غربلة دقيقة وصارمة في الإنتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة.. أنهت بواسطتها الحياة السياسيّة لعدّة أحزاب وشخصيّات سياسيّة ظنّت أنّها أذكى من عامّة الشعب التونسي.. وأنّها يمكن أن تخدعه وتضحك عليه بالمال والعطايا.. وبالوعود الزائفة.. أو بمساحيق التجميل التي تخفي الفشل والعجز والفساد.. أو بالبروباغندا الإعلاميّة.. وأخرجتهم مهزومين خائبين من الإنتخابات..!!
وأنذرت غالبيّة الشعب التونسي في نفس الوقت.. أحزابا وشخصيّات أخرى.. وأعطتها الفرصة الأخيرة للتدارك.. أو الإندثار.. كسابقاتها..!!
وأعطى الشعب التونسي في نفس الوقت الفرصة لأحزاب وقوى سياسيّة جديدة.. أبدت بوادر لحسن النيّة والنزاهة والإستقامة وخدمة البلاد.. باحثة عن التغيير.. عبر تصعيد قوى أخرى وبثّ دماء جديدة في الحياة السياسيّة..!!
يثبت كلّ ذلك.. أنّ الوعي والذكاء الجماعي للشعب التونسي يتفوّق على وعي وذكاء الطبقة السياسيّة بالبلاد..!!
ويثبت ذلك أيضا.. بأنّ الشعب التونسي هو حقّا وبالفعل في عمومه أذكى بكثير من نخبه..!!!!
وأعمق وعيا جماعيّا من شخوص سياسيّيه..!!
وأنّ الشعب أكثر دهاء سياسيّا من حكّامه ومن طبقته السياسيّة المتكلّسة والمهترئة.. والتي تعيش خارج عصرها.. وتنشط على هامش السياق..!!!
ويثبت ذلك أيضا وأيضا.. بأنّ الشعب التونسي في عمومه.. هو طاقة بشريّة ضخمة.. وفاعلة.. وحيويّة.. جدّا جدّا..!!
لكنّها للأسف طاقة مهدورة.. وضائعة.. غير مستغلّة..!!
ولم يعرف لا الحكّام ولا القادة ولا السياسيّن حتّى اليوم إستغلال تلك القوّة والطاقة الشعبيّة الهائلة.. وحسن توجيهها.. وتوظيفها في طريق عمل وبناء وإنجاز.. مخطّط له جيّدا.. ليكون الشعب قوّة وطاقة إيجابيّة بنّاءة.. عوض أن يكون قوّة وطاقة سلبيّة أو هدّامة..!!
القادة الحقيقيّون العظماء.. هم الذين يصنعون الفارق..!!
وهم الذين يقودون الشعب نحو الرقيّ والتقدّم والتطوّر والإزدهار..!!
وليس العكس..!!
ليس هناك شعوبا سيّئة أو سلبيّة أو جاهلة أو متخلّفة أو غير واعية أو فاشلة أو عاجزة..!!
ولكن هناك حكّاما وسياسيّين وقادة.. هم السيّئين والسلبيّين والجاهلين والأغبياء والفاشلين والعاجزين..!!!
لكونهم لم يقدروا على إشعال تلك الطاقة الهادرة الخلاّقة المتوهّجة.. وتوجيهها وتوظيفها..!!
ولكونهم في الواقع عديمي القدرات القياديّة.. وفاقدي المهارات السياسيّة الحقيقيّة للزعماء.. وأنّه لا فكر لهم.. ولا رؤية لديهم للدولة.. ولا برنامج.. ولا مخطّط.. ولا معرفة.. ولا قدرة على الإدارة.. ولا على مخاطبة الشعوب.. ولا على حكم دولة..!!!
إنّ السفينة التي بدون وجهة.. لا تنفعها الرياح الطيّبة..!!
والربّان الفاشل.. سيجعل حتّى البحّارة الماهرين يغرقون السفينة.. عوض إيصالها إلى برّ النجاة..!!!