عماد محنان
تحوّلت نظريّة المؤامرة إلى إيديولوجيا مخيفة خطرها أعظم من خطر جميع الإيديولوجيّات المناوئة للعرب والمسلمين. ولا تكمن خطورتها في كونها إحباطا وتشكيكا في كلّ شيء وفي كلّ رمز وكلّ قيمة، بل في أنّها هي المؤامرة عينها. إنّها عقيدة استسلاميّة تستبطن الضّعف والعجز. وهي من مفردات التركة المشؤومة التي شكّلت ثقافة الهزيمة لدى العقل السّياسي العربي على امتداد أزمنة النّكسات والنكبات والهزائم العسكريّة المُهينة.
إنّ هذه العقيدة البالية لا تجعلنا، وحسبُ، نخبا وشعوبا مهزوزة الإرادةّ، بل تجعلنا أيضا نحيا وننظر إلى العالم والتاريخ وإلى أنفسنا بعين عدميّة. فالماضي مؤامرة والحاضر حصيلة مؤامرة والمستقبل كذلك، وخنوع الشعوب كما ثورات الشباب ونتائج الانتخابات كلّها من تدبير غرف الاستخبارات ومراكز الإستراتيجيات. فليس الآخرُ إلها يصنع أقدار الشّعوب كما يشاء. ولسنا عجينا طيّعا نتشكّل بكلّ الأشكال ونتلوّن بكلّ الألوان. وما من شكّ في أنّ ملامح العالم تُصاغ بدءا في صورة سيناريوهات، وأنّ اليد الإستراتيجية الاستشرافيّة طويلة جدا بحكم التّغلّب العسكري وبحكم فارق الهوّة التّكنولوجيّة بيننا وبين دول الاستعمار، إلاّ أنّ شعوبنا ليست من الرّخويات كما يريد أن يقنعنا غلاة هذه العقيدة. إنّها قدريّة سياسيّة. ووزرها ثقيل لأنّنا أصلا شعوب لاتزال تحيا خلف سياج قدريّات عقائديّة ولم نعد قادرين على تحمّل أعباء قدريّات إضافيّة. أو هي من أمراض الوهم الجمعي، أشبه ما تكون بالطلقة التي لا تصيب فريستها لكنّها تلقي الرّوع فيها فتستسلم.
ولا بدّ أوّلا من الانفكاك من أسر هذا القيد الإيديولوجي حتّى نتحرّر من أوثان عقولنا فندرك أنّ الشعوب ذات فعل وإرادة. فلا يمكن لأيّ عبقريّة مهما ارتقت ولا لأيّ تكنولوجيا مهما تطوّرت أن تعلن واقع البشر وتبني التاريخ على بسيط ثنائيّ البعد بالمسطرة والبركار. وذلك أنّ عالم البشر مليء بالنتوءات والتّجاويف التي بها يستحيل إدراك امتداداته ومساحاته على وجه التّحقيق. نحتاج، إذن، إلى عقل سياسيّ جديد غير قدري يؤمن بالفعل وينظر إلى التّاريخ بمنطق الإرادة الحرّة وحبّ التّغيير.
قد تكون الملحمة التي يسطّرها الحراك العربي الحالي، في موجة 2019 تونس والجزائر ولبنان، إحدى تجلّيات هذا العقل السّياسي الواعد. الآن/هنا نرى جيلا يعرف المؤامرة ولكنّه لا يعترف بسلطانها عليه. ففي احتجاجات لبنان، من كان يصدّق أنّ فرض تعريفة على استخدام تطبيقة الواتساب يمكن أن يؤدّي إلى مثل هذا الزّلزال السّياسي العنيف؟ من يستطيع أن يصدّق أنّه بوسع لبنان أن يلغي طوائفه تحت شعار: “الشّعب يريد”؟