جهاد الحاج سالم
فكرة قيس سعيد عن الحكم المحلي هي فكرة تمتد بأصولها إلى الفلسفة السياسية الأناركية (أو اللاسلطوية) في صيغتها الحديث، القائمة على دعم أشكال الحكم الذاتي التشاركي عبر إعادة بناء السلطة من تحت. من المعروف عن الأناركية رفض كل أشكال السلطة، وعلى رأسها سلطة جهاز الدولة. لكن، في العقود الأخيرة شهدت الفلسفة السياسية الأناركية تطورات مهمة، خصوصا في ظل الأعمال الإناسية (أو الأنثروبولوجية) عن المجتمعات “البدائية” الفاقدة أو المضادة للدولة وعن العصر الحجري السابق لاكتشاف الزراعة وتدجين البشر ضمن الدولة.
من ذلك، نجد أعمال عالم الإناسة جيمس سكوت (James scott) التي تبرز أن تاريخ الدولة لا يمثل سوى خمسة بالمائة من تاريخ جنسنا المعروف بالإنسان العاقل العاقل (homo sapiens sapiens) المقدر بمائتين وخمسين ألف سنة حسب علماء البيولوجيا. أما في بقية هذا التاريخ، فكان أسلافنا الساحقين يعيشون ضمن مجموعات صغيرة ومتحركة تقتات على الصيد والقطف في غالب الأحيان، أو الإعتلاف والرعي في أحسن الحالات. في حوار مع جايمس سكوت، تم سؤاله: “هل بالإمكان إنهاء الدولة؟”، فكانت إجابته: “لا أعتقد أنه مازال بإمكاننا إنهاء الدولة، كل ما بوسعنا فعله هو تدجينها”. بالفعل، كل الفلسفة الأناركية الحديثة قائمة على تدجين الدولة، من خلال فكرة الحكم المحلي التي تعيد تأسيس السلطة من تحت عبر التقرير الجماعي والذاتي التشاركي.
في كتاب جميل بعنوان “شذرات من أجل إناسة أناركية” (Fragments for an Anarchist Anthropology)، يطرح عالم إناسة آناركي آخر إسمه دايفيد غرايبر (David Graeber) فكرة مهمة مفادها أن الديمقراطية التمثيلية هي شكل أوروبي خالص لتدبير السياسة. وإن كان استنباط الديمقراطية على يد إغريق أثينا، فإنه لا يعطيهم ذلك أي تفوق حضاري. فالمجتمعات الأخرى المعاصرة للإغريق كانت بالذكاء الكافي حتى تستنبط فكرة التمثيل عبر الانتخاب، إلا أنها خيرت شكلا آخر من التدبير السياسي قائم على الشورى (La délébération) لا على التمثيلية. في المجتمعات القبلية، مثلا، وأغلبها لم يعرف الدولة إلى حدود زمن قريب، يوجد مجالس يجتمع فيها القوم لتقرير شؤونهم. وبحسب حجم هذه المجتمعات، فإنه مجالسها قد تجمع وجهاء القوم حصرا في بعض الحالات، أو القوم بأجمعه في حالات أخرى. يمكن أن نضرب مثلا عن ذلك بدار الندوة في قريش، المعروف أنهم كانوا قوما لقاحا (أي دون سلطان، أو دولة). كذلك، رابطة قبائل الإيروكوا من الهنود الحمر، التي درسها لويس هنري مورغان في أحد الكتب المؤسسة لعلم الإناسة.
على كل، تتميز كل هذه التنظيمات السياسية بكونها قائمة على بناء الإجماع، لا على تمثيل صوت الأغلبية داخل الجماعة السياسية. لكن، هناك ثلاثة شروط أساسية تساهم في نجاعة هذا الشكل من التدبير السياسي الشوري والمساواتي:
• أولا، أن أغلب المجتمعات التي تحقق فيها، هي مجتمعات ذات ساكنة ضعيفة العدد. ومن المعروف أن إرتفاع عدد السكان مرتبط بوجود نصاب سلطة مستقل عن المجتمع، أي دولة. إذ تحتاج الدول لتنمية عدد سكانها من أجل مراكمة الإنتاج وخوض الحروب. وهذا ما يجعل عالم الإناسة بيار كلاستر يصف الدولة بأنها موالدية (nataliste)، بينما المجتمعات الفاقدة أو المضادة للدولة كانت دائما تبتدع آليات لرفع الوفايات وإنقاص الولادات، أو تنفصل عن بعضها في حالة إرتفاع حجم ساكنتها إلى نسبة عالية.
• ثانيا، أغلب هذه المجتمعات تنعدم أو تنخفض فيها الإنقسامات الاجتماعية بصفة عالية. إذ يجمع علماء الإناسة أنها لا تعرف انقسامات طبقية بالمعنى الحديث، كما أن الانقسامات الجندرية والعمرية فيها تكاد تغيب أيضا. وفي بعض الحالات، يكاد يكون الإنقسام الجندري أو العمري هو الإنقسام الوحيد في هذه المجتمعات، فتقصى النساء أو الفتيان الذين لم يبلغوا سن الرشد الاجتماعية من عملية التدبير السياسي.
• ثالثا، لا تعرف هذه المجتمعات الفردانية بالمعنى الحديث. إذ أن مفهوم الفرد، بمعنى الذات المعنوية القائمة بذاتها، غائب فيها تماما.
نعود إلى قضية الحكم المحلي من تحت. هذا الشكل الجديد لإعادة توزيع السلطة يمزج الشورى والتمثيلية في عملية التدبير السياسي. فهو يقوم على إحداث إجماع داخل المجموعة المحلية تمثله مجموعة من صلبها. لكن، شروط تحققه هي نفس تحقق شروط التدبير الشوري في المجتمعات الفاقدة أو الرافضة للدولة، إنما بهيئة حديثة وعبر مفهوم التشاركية الحديث. نأخذ، مثلا، نموذج المجتمعات الإسكندينافية التي تعرف مساحات واسعة من التقرير والحكم من تحت في تدبيرها السياسي:
- هذه المجتمعات حققت مستوى عالي من العدالة الاجتماعية، بحيث ينزع فيها التوازن الطبقي إلى المساواتية. كما تحققت فيها حقوق جمة للمرأة والأطفال وذوي الإعاقة، بحيث تساوت حقوقهم بالكامل مع الذكور الراشدين.
- هذه المجتمعات عرفت الديمقراطية التمثيلية وتشبعت بها، من ثم أخذت ترفدها بجرعات متتالية من الشورية أو التشاركية.
- هذه المجتمعات تحققت فيها الفردانية الخالصة بالمعنى الحديث، بحيث صارت مكانة المواطنة فيها تعلو على مكانة الانتماءات الأخرى “ما قبل مواطنية”.
السؤال: هل تتوفر هذه الشروط في مجتمعنا؟ هل نقدر بحجم الإنقسامات الطبقية والاجتماعية والجندرية والعمرية والجهوية والعشائرية التي في مجتمعنا أن نبني جماعة محلية قادرة أن تدبر شأنها السياسي عبر التشاركية والإجماع؟ في رأيي، الإجابة هي لا.
حسب رأيي، الحل الأنجع في مجتمعنا هو حكم محلي قائم على التمثيلية ومرفود بالشورية، لا العكس. وهو عين ما يؤسس له الباب السابع من الدستور. إذ أقر مجالس بلدية منتخبة، يكون فيها التقرير تشاركيا مع المواطنين، أي عبر عملية شورية تبني إجماعا داخل الجماعة المحلية حول الأولويات والمتطلبات. قد يقودنا ذلك مستقبلا إلى إعادة تشكيل جذري للسلطة من تحت، لكن التدرج هو سمة الحكمة في مواجهة صلابة البنية التاريخية.
إن أي مشروع لا يقرأ البنية الاجتماعية والسياسية وتوازناتها، ويبني نفسه على الشعاراتية أو الاستنباط العقلي القانوني المحض، هو مغامرة غير محسوبة. حاولت إختصار رأي متواضع في الموضوع، وأتمنى فتح نقاش عام حوله لأن عواقبه السياسية والاجتماعية هي من الخطورة بمكان.