ليلى حاج عمر
حين بدأ مثقفو القديمة وسياسيوها يسخرون من الثورة وينعتونها بـ “ثورة البرويطة” كان الشباب الذين اكتسحوا مكاتب الاقتراع البارحة لا يزالون في سنّ الطفولة ما بين 10 و15 سنة تقريبا. وكانوا يراقبون بنصف عين ما يحدث وبعين أخرى كانوا يغرقون في ألعاب الفيديو التي يحاربون فيها المافيا بأسلحة افتراضيّة، ولا يغفلون عن متابعة الأحداث الكبرى التي اهتزّ لها البلد كالاغتيالات والعمليّات الإرهابية ومعارك الكبار حول السلطة. كان الأمر وكأنّه لا يعنيهم وكنّا لمّا نسألهم عن أحلامهم يجيبوننا جوابا واحدا تقريبا: مغادرة الوطن. كانت “الحرقة” بأشكالها المتعدّدة هاجسهم وكانوا يشعرون بانسداد الأفق. لقد حلّقت غربان كثيرة في الأفق ورسمت سوادا كبيرا وكانت صناعة اليأس يوميّا على المنابر وجَلد الثورة وتأجيج العداوات في التلفزات جريمة في حقّهم واجهوها بالإيغال في اللّامبالاة. لم يكن أصحاب المنابر يرونهم سوى كتلة غبية يمكن توجيهها كما يريدون، فأوغلوا في الصراخ وأوغل الأطفال في صمّ الآذان والفرار. لا شيء يعجب وسنغادر. هذا الوطن ليس لنا. إنّه للمافيا.
ولم يكن منتظرا أن يكبر هؤلاء الأطفال بسرعة ويصيرون تلاميذ وطلبة في عمر الانتخاب فلا أحد ينتبه إليهم في غمرة البحث عن المواقع، ولا أحد ينتبه إلى أنّ ذلك الطفل الذي كبر قد درس الفلسفة وتحصّن بالتفكير النقدي وعشق الشعر وانتبه إلى القيم فيه وولع بالأدب وأحبّ ماركيز ودرويش وفيروز وأغاني الراب المتمردة، وأنّ انقلابا ما قد يكون حصل في ذهنه وأنّ معنى ما قد يكون جذبه وقرّر أن يدافع عنه. ولم يكن الإقبال على الانتخاب سوى تعبيرة رمزيّة عن الدّفاع عن المعنى الذي وجدوه في أحد المترشّحين دون الآخر. المعنى الذي حاولت ترسانة الإعلام وقوى المال الفاسد ومجموعة من المثقفين تزييفه. كان كافيا أن يلتقط الشباب ذلك المعنى الجميل حتى يشعروا بوجودهم وبانتمائهم ثانية إلى الوطن. فلا مبرّر لأن يتركوه يفرّ من بين أصابعهم، وكانت أصابعهم الملوّنه بالحبر تزعزع القديم وتنتزع الجديد. لقد رسموا بالحبر لوحة الوطن القادم.
قد لا يدرك الشباب ما فعلوا. لقد أحدثوا الزلزال بدفع البرويطة ثانية بعد أن قطع عليها الطريق. لقد دفعوا بالثورة خطوة أخرى إلى الأمام فأسقطوا لعبة المال والمخابرات والسفارات، وأسقطوا أوهام المثقّفين وادّعاءات المتأدلجين وشراسة الإعلاميين، والأحزاب التي تريدهم مجرّد أتباع. لقد أنجزوا المستحيل.
والآن، وقد أنقذوا تونس ورسّخوا القيمة وأصّلوا الديمقراطية وأسقطوا واجهة الفساد، يحتاج أبناء تونس إلى وطن يؤمّن لهم الحياة الكريمة ويضمن الحرية والعدالة ويطير بهم إلى سماء الأحلام. ولهذا لا بدّ أن نبدأ وبسرعة. قبل أن يقلبوا ظهر المجن. ثانية.