تدوينات تونسية

ديمقراطية “ميزوني”

عبد الرزاق الحاج مسعود

كالجنين الذي “ينجح” أن يولد بشبه معجزة.. ثم لا يكبر
أو ديمقراطية “ميزوني” (عاميّة تونسية تعني كبير الرأس صغير الجسد.. ومريض)

يحيّرني سؤال: لمَ لمْ يخلق حدث الثورة التونسية تحوّلات عميقة في الوعي العام التونسي الشعبي والنخبوي؟
فقط بفضل الحرية الكاملة التي أتاحها سقوط النظام السياسي البوليسي ولد جدل فكري نخبوي تمخّض عن خلاصات سياسية صيغت في الدستور الجديد.
هل تذكرون لحظة الاتفاق حول الدستور؟
أنا أسميها لحظة قاطعة/ جامعة : ذروة سياسية/ فكرية تنازل فيها الحداثيون عن جزء من تقدّميتهم النخبوية لصالح شعب محافظ، وتنازل فيها الإسلاميون عن سلفيّتهم اللاتاريخية، وتنازل القوميون عن وحدويّتهم الحالمة، وخاااصة تنازلت مراكز وشبكات الفساد القديم والهيمنة (المحلية والدولية) عن قليل من مصالحها وعن خطّة عملها القديمة.
يعني أن حدث 14 جانفي أربك الجميع واضطرّهم كلّهم إلى الالتقاء في مكان واحد اسمه الدستور وما تبعه من مسار المأسسة.
ما حدث من تعثّر بعد ذلك وما يزال يحدث بنسق أخطر هو ترجمة للتجاذب بين تلك الأطراف نفسها التي تراجع في كل مرة مكاسبها وخسائرها.

كان يمكن أن تتحوّل تلك الخلاصات إلى مشترك سياسي وثقافي ونفسي بين كل فئات المجتمع.. لن أقول إلى درجة خلق حالة استقرار ديمقراطي حديث ومزدهر، فضلا عن ان يصبح حالة إبداعية جمالية “جديدة” تنجز قطيعة مع جمود العقل والخيال الذي صار خاصية عربية مسجّلة.. لكن أسبابا كثيرة منعت ذلك.

أهمّ تلك الأسباب الاختراق والاحتواء والتحكم الأجنبي/ الاستعماري الذي تعرضت له الثورة. وهو أمر طبيعي ومنتظر.. وبنيوي: يعني آليات النهب والاستعمار الاقتصادي والهيمنة السياسية العالمية لم تتوقف يوما حتى يشهق الجميع الآن من هول المفاجأة: يا لطيف.. ها نحن نكتشف أن تونس مخترقة وترتع فيها المخابرات الأجنبية وتفعل فيها ما تريد…
الذين يشهقون من هول “المفاجأة” كانوا قبل أشهر فقط يصِمون ديمقراطية تونس “الصغيرة” بأنها شكلانية ومن ورق ومخادعة ومزيفة للوعي الثوري الحقيقي الذي لا يكون إلا راديكاليا جذريا مزلزلا (قاموس الشحن الثوري القيامي طنان وأجوف كطبل …).. لذلك أطلب منهم بأدب أن ينزاحوا قليلا ليتركوا فسحة تمرّ منها الأفكار الواقعية الرصينة.
الدول الاستعمارية حاضرة في كل خريطة العالم. من “يلعب” فيها متفاجئا من هول الصدمة عليه أن يكمل دهشته بعيدا عن مساحة الوعي الذي تحتاجه الديمقراطية التونسية.
من يركل كل شيء باسم الثورية الطوباوية المستقبلية جدّا ويهرب في اتجاه “المحو” المطلق لكلّ مكوّنات المشهد السياسي بدعوى أن الجميع استنفد طاقته ويجب أن يرحل.. هو عبء على حلم ضحايا الاستعمار الذين يحتاجون حلولا ذات أثر واقعي ولو كان ضئيلا.

من بلغوا خمسين سنة سياسة وقراءة و”طرايح” وأحداثا.. لا أقول عليهم أن ينسحبوا ليتركوا مجال التجريب “المراهق” للجيل الجديد، بل عليهم -ليكونوا لبنة ضرورية في مسار الإنقاذ- أن يلتقوا حول فكرة بسيطة قوامها أن من يتحرّك داخل التاريخ الواقعي في مواجهة عدوّ يستخدم العلم والتخطيط والقوة الذكية والغاشمة، عليه أن يتسلّح، في انتظار الاقتدار الكامل، بالرؤية العاقلة: استراتيجيا وتكتيكا.
هؤلاء بالذات عليهم “واجب الوعي” بتعقّد اللحظة وخطورتها لا المساهمة في تضبيب المستقبل بالإسراف في الشعاراتية الساذجة.
المزايدة بالمثال الأخلاقي المجرّد والمبدأ الأعزل هو خدمة مجانية لأعداء الحرية والديمقراطية والتقدّم.
وهو تهريج أوّل من يضحك منه الخصم الذي يبحث عن مثاليين هوايتهم مناطحة العدم بالشعار لا بالعمل.
إن لم نفعل ستظلّ ديمقراطيتنا “ميزوني”…

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock