حيرة الديمقراطية في تونس

نور الدين العلوي

في نهاية الأسبوع الأول من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2019 يحسم التونسيون أمر برلمانهم القادم، ثم بعد أسبوع آخر يحسمون أمر رئيسهم. ويُنتظر أن تعود مياه حياتهم إلى مجراها العادي في ديمقراطية ناشئة، ولكن ثمة غيمة سوداء تخيم على سماء تونس، حتى أن البعض منهم يبكي من ألم الديمقراطية. فالأمور ليست سهلة كما هي على الورق النظري للديمقراطية، والخوف من المجهول يرافق الديمقراطية التونسية. والسؤال التونسي هذه الأيام: من يكون رئيس الحكومة القادم؟ في انتظار أن يعودوا إلى السؤال المضجر: رئيس تونس من يكون؟
لقد بدأ التمرين الديمقراطي بالسرعة القصوى وأربك التوقعات، ورغم أنه لم ينتج عنه عنف سوى في وسائل إعلام المنظومة التي تجاوزت كل أخلاقيات المهنة وضوابطها، لكن الحيرة على أشدها: لمن سأمنح صوتي يوم الأحد؟
القانون الانتخابي أوهن التجربة منذ البداية
التجربة التونسية انطلقت بعائق يوهن سيرها؛ هو قانونها الانتخابي الذي لا يسمح بأغلبية لحزب واحد، وقد كانت النية من وضع هذا القانون منع حزب النهضة الإسلامي بالذات من الفوز بأغلبية، ولكن نتيجته أن كل الأحزاب انهارت، وفُتح الباب للمستقلين لخوض تجارب انتخابية. لم تعط انتخابات 2014 حظوظا للمستقلين، ولكنهم عادوا بأكثر قوة وتصميم، وهناك نجاحات محتملة حسب الاستطلاعات المنشورة.
الوضع الذي أوهن الأحزاب أوهن التجربة برمتها، فلم يحكم حزب ليحكم الناس على أدائه، وفضّل البعض ذلك واستعمله ذريعة للتفصي من كل الفشل الذي أودى بالبلد. ولا نرى في الأفق كتلة حزبية متقدمة بحيث تكون عامود قيامة حكومة ثابتة، وإنما كتل صغيرة ملزمة بخوض مفاوضات كسر عظم لتكوين حكومة والمصادقة عليها وتثبيتها. وقد بدأ الحديث عن انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، فضلا على أن الموقف مع النهضة أو ضدها يحكم مواقف الجميع.
كيف ستكون نتيجة انتخابات سابقة لأوانها دون تغيير القانون الانتخابي، ودون إمهال المشهد السياسي ليلملم خيبته أمام تقدم المافيا في مفاصل الحكم؟ يوجد معطى واحد نشاهده كل يوم ونسمعه في كل جملة أبعاد النهضة عن الحكم. و”بعدين”؟ لا يوجد “بعدين”.
انتخابات ضد النهضة
كل من نسميهم بالطيف الثوري في تونس يتعففون عن حديث انتخابي فيه احتمال تحالف مع حزب النهضة في البرلمان، أي أن الجميع يبني خطابه على القطيعة. وتتخذ مكونات المنظومة نفس الموقف من الحزب، بما جعل الحملة مركزة عليه، وهو ما جعله يخوض حملته ضد الجميع.
جهد كثير لا يذهب إلى استقطاب ناخبين جدد من ضمن الملايين الأربعة التي تتفرج ولا تشارك (مجموع الناخبين يفوق سبعة ملايين ناخب يشارك منهم أقل من أربعة دوما)، بل اتجه الجهد حتى الآن إلى كيف تجعل النهضة تخسر. استوى في ذلك طيف اليسار ومكونات المنظومة، والطيف الثوري الذي يعلي الخطاب ضد النهضة ويطأطئ ضد المنظومة. حتى أنه يمكننا القول إن هذه الانتخابات تجري لإخراج النهضة من المشهد السياسي، لا لبناء مشهد سياسي جديد فيه النهضة.
هل يمكن للأحزاب الصغيرة والمستقلين (المعادين حسب خطابهم للمنظومة) أن يكونوا موقفا وازنا داخل مجلس تحكمه المنظومة ومكوناتها، دون الاستعانة بحزب النهضة؟ لا أرى أي بوادر تخفيض التوتر في هذا الاتجاه، وأميل إلى الاعتقاد بأن المنظومة رغم شتاتها ستجد نفسها في موقف مريح لتكوين حكومة دون الاستعانة بأحد.
حصر النهضة في زاوية ضيقة وتدميرها يبدو هدفا مشتركا بين كل الطيف السياسي، بما جعل هذه الانتخابات تدور في نفس أجواء خطاب 2014. ولا تتقدم لتضع خراب الوضع الاقتصادي أولوية خطاب وعمل، وتنطلق منه مع النهضة أو بدونها، ونرى البرلمان القادم برلمانا استئصاليا ما لم يفاجئنا الناخب التونسي مفاجأة أخرى، من قبيل تقديم قيس سعيد على كل الوجوه القديمة التي مارست السياسة، وهي المفاجأة التي تجعلنا حذرين في تقديم توقعات قريبة من اليقين من النتائج القادمة للتشريعية.
الرئيس في معزله
إعلان النهضة رسميا انحيازها في الدور الثاني للتصويت لقيس سعيد ضد نبيل القروي حوّل خطاب فريق القروي وأنصاره إلى وجهة جديدة، فقبل موقف النهضة كانت عيوب سعيد هي جهله بالحكم (كأن خصمه خبير به عليم)، فلما وضح موقف النهضة استعيد خطاب الدعوشة، وعاد التهديد بعودة داعش، وصار قيس سعيد المتدين المحافظ (المجهول) زعيم داعش.
وهي عملية للتخويف واستعادة أجواء الاحتراب الهوياتي، تمهيدا لعزل الرئيس بصفته رئيس النهضة. ليس لمعارضي سعيد أي خطاب جديد، فليس مرشحهم هو المكشوف فقط، بل هم ينكشفون ويؤكدون معطى مهما خطاب الهوية لا يأتي من الإسلاميين، بل من خصومهم، بما يفسر كل ما مضى ويفسر ما سيأتي. وكلما ضاقت بالمنظومة السبل استعادت الخطاب الهوياتي ووظفته باعتبارها ضحية، ولكن مكوناتها اليسارية منها، والتجمعية والمستقلة، هي في الحقيقة من مسعري حرب هوياتية يحسنون رجم غيرهم بإثارتها، ولكنهم يملكون مفاتيحها. والحملة الانتخابية في أسبوعها الثاني والثالث لا تختلف في شيء عن حملتي 2011 و2014.
لن يقف خطاب الهوية عند هذا الحد، فالقصد من استعادته هو حصار الرئيس (الداعشي) في معزل، عبر إبعاد النهضة عن الموقع الأول في البرلمان، أي عن تشكيل الحكومة المتعاونة مع الرئيس، بما يجعله معزولا ولا تُقبل منه أية مبادرة تشريعية، ولا يُسمع له إذا حاول فرض نفسه على مجلس الوزراء بما هو من صلاحياته. وهي الوضعية التي تجعله عاجزا عن الحكم، فإذا استسلم للوضع فشل، وإذا واجه الحكومة والبرلمان فشل.
هل يندم التونسيون على المسار الديمقراطي
التوقع صعب والتفاؤل المفرط خاطئ والتشاؤم مؤذ، ولكن المؤشرات لا تقدم صورة وردية الكتل متقاربة حسب الاستطلاعات، وليس فيها من يملك مفتاح الحكم دون حلفاء؛ ليس نتيجة القانون الانتخابي وحده، بل نتيجة التشتت الناتج بدوره عن ترذيل السياسة التي أتقنها إعلام فاسد؛ يبدو أنه الرابح الوحيد من سنوات الباجي الخمس، حيث ظل يطرق العقول حتى صار كل سياسي لصا أو شيطانا.
قبل خمسة أيام من الذهاب إلى الصندوق يبدو التونسيون في حيرة كبيرة، وبعضهم يصرخ أن قد ندمنا، فالطمأنينة تحت الدكتاتورية كانت بلا وجع رأس للكثيرين؛ يجدون أنفسهم مضطرين الآن لخوض معارك قاسية من أجل اختيار برلمانهم وحكومتهم.
هل هذه هي الديمقراطية؟ نعم إنها وجع الرأس الذي لم يسمح لنا بمعرفة الرئيس حتى اللحظة الأخيرة، ولا يُسمح لنا بتخيل ملامح حكومتنا قبل إغلاق آخر صندوق اقتراع. هل كان يمكن أن تكون أقل سوءا؟ نعم لقد بُنيت على أساس مغشوش؛ هو قانون بن عاشور الانتخابي الذي عجز اللاحقون عن تعديله، فتركوا به ثقوبا تسمح للصوص بالترشح لرئاسة البلد.
والضمانة الوحيدة الباقية لإنقاذ التجربة هي أن يكون قيس سعيد رئيسا ومحاطا بحزام برلماني متوافق على خطوط حكم عريضة؛ أهمها حفظ الاستقرار والتقدم ولو بخطى وئيدة، على أن تكون الخطوة الأولى فيه هي تغيير القانون الانتخابي، وهو جوهر مشروع الرئيس. ولا يمكن للحزام السياسي حول الرئيس أن يقوم إلا بحزب النهضة. ولذلك نرى بيقين أن الذين يسعون إلى حشر النهضة في الزاوية لتدميرها سيأتونها صاغرين في وقت قريب، لترميم ما هدمه الحمق السياسي الذي أوهمهم بأنهم زعماء كبار.
عربي21

Exit mobile version