نصر الدين السويلمي
النهضة، المؤتمر، التكتل.. النهضة، النداء، الوطني الحر، آفاق.. والأقرب أنها النهضة وقلب تونس.. المنصف المرزوقي حمادي الجبالي علي العريض المهدي جمعة الباجي قائد السبسي الحبيب الصيد يوسف الشاهد.. قيس سعيد او نبيل القروي… هذه الشخصيات والأحزاب بهيبتها، بنكستها، بتاريخها، بانتهازيتها، بشرفها، بخيانتها، هذا الخليط من السماحة والرداءة كان وما زال العوبة في غربال الشعب التونسي، يخضه يرجه، ثم يضرب به أركان الزرّاد! كم تبدو المأساة لذيذة حين تتحول الساحة السياسية إلى كرة في ملعب الشعب.. كم يحسن هذا الشعب مراقصة طلاب السلطة، كم تبدو اتعابنا حلوة ونحن ننتصر وننهزم، نفرح ونحزن يلهو بنا الأمل ثم يطلقنا الى الفراغ، تماما كعصفورة قيس والشعب ليلاه:
متى يشتفي منك الفؤاد المعذب ــــــ وسهم المنايا من وصـالك أقـــرب
فبعد و وجد واشتياق ورجفـــة ــــــ فلا أنت تدنيـــني ولا أنـا أقــــــرب
كعصفورة في كف طفل يزفهــا ــــــ تذوق حياض الموت والطفل يلعب
فلا الطفل ذو لب يرق لما بها ــــــ ولا الطيــر ذو ريــش فيـــهـــــرب
شراع هذه الأحزاب في قلب اليم، وشعبها كالريح ينفخ بلا شفقة، يفعل هذا الشعب بساسته كما تفعل الأقدار بالليل والنهار، بالشمس والقمر “خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى”، يمارس عليهم الشعب فنون العقاب، كما الاقدار “وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ”، ثم إذا استيأسوا وظنوا أنها ظلمة ابدية، عاد الشعب إلى زرع الأمل أسوة بالاقدار “فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً”.
ها نحن بصدد شعب ساخر حاسم لا يعترف بالمقاربات التقلدية، ولا يحيّن اختياراته برفق، يضرب هذا الشعب بالثقيل لا يتدرج، يجرّب النقيض ونقيضه، لا يستنكف من استبدال جلاد التجمع بضحيته النهضة، ثم لا يرحم حين يعيد إنتاج التجمع ويضرب به النهضة، هو ايضا لا يخجل من تنحية بن علي وتنصيب المرزوقي، ثم لا يخجل من اخرى مناقضة، حين ينحّي المرزوقي ويستبدله بوزير بورقيبة ورئيس برلمان بن علي.. انه التمرد.. انه الجنون الحكيم.. إنه تسونامي الاختيارات!!! انه العقاب المدني في أقسى صوره.. انها ثورة رائدة ، وانه الشعب الذي يساعد الطبقة السياسية بعبقرية عجيبة، تبدو الصورة في ظاهرها تحركات عشوائية متوترة، لكن في باطنها عملية توازن دقيقة، تقترب من المعادلات الرياضية، هذا الشعب يمارس التحطيم الممنهج لغرور الطبقة السياسية، بسرعة عجيبة فرض الثورة النقية في مكان التجمع، ثم وحتى يباغت النضال التاريخي ويحرمه من الغرور، نزعه واستبدله بخلطة تجمعية يسارية مموهة، ثم ولما اعتقد النشاز الندائي الحداثوي انه ضحك على الشعب، أرسل عليه الشعب كتيبة اليقظة يؤازرها لواء العقاب، نسف الشعب السلطة الندائية خلال موقعة 15 سبتمبر، والمؤشرات تؤكد أنه سينسفها ثانية عند موقعة 6 اكتوبر.
ينقّل الشعب اغراضه الديمقراطية بين مختلف النسيج السياسي، لا يستقر على وجهة واحدة، وكأنه يطور غريزة البقاء، وكأنه يرفض الصكوك على بياض كما يرفض أن تنطلي عليه خدعة الخطابات الرنانة، خدعة 18 جانفي 1963 و 7 نوفمبر 1987، وغيرها من مخدر القول. لعله يسعنا تشبيه الحذر المتنمّر للشعب بالزعيم الذي يخشى الانقلابات، فيعمد الى احداث إقالات ونقلات مدروسة وراديكالية وفي أوقات متقاربة، حتى يشوش على مشاريع الانقضاض ويقطع خطوط التواصل ويحرم الخطة من منحة الاستمرارية.. تلك مؤشرات تؤكد ان الشعب مازال يثبّت اوتاد السياسي، منهمك هو في تدريب الطبقة، وتعويدها على الصعود والنزول، على ثقافة التسليم والاستلام، على النجاح والفشل، والاهم على انها ومنذ سبعطاش ديسمبر مؤسسات الشعب وليست مؤسسات السيد الوالد، ولا تندرج تحت “لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ” ولا تخضع لمشروع بشرى. يفرض الشعب على طبقته السياسية ان تتعلم في البدء كيف تدخل السلطة بهدوء وتغادرها بهدوء، تلك هي الخطوة الأولى في السنة الأولى “تداول سلمي على السلطة”.
منذ 14 جانفي الى اليوم اقدم الشعب التونسي على احداث تغييرات جذرية على رأس مؤسساته السيادية التي استرجعها ذات 14 جانفي على وقع ملحمة سبعطاش ديسمبر، انتقل من النقيض الى النقيض، من الجلاد الى الضحية ثم ومن الضحية الى الجلاد، هذا على مستوى القصبة، أما قرطاج فقد انتقلت من راس القمع إلى أحد رؤوس النضال، ثم عادت الى منظومة القمع ثم تشير محطة سبتمبر ان الشعب يعيد المشعل الى الثورة، في عملية انتقال دراماتيكية استسلم لها الكل، باستثناء البعض الذي حاول الالتفاف فاقعده الفشل. في خضم هذا الانتقال الحثيث والبحث المضني عن المنشود، استبدل الشعب كل الشخصيات وكل الأحزاب، حتى الحزب الأكبر في البلاد “النهضة” استبدله الشعب، لكنه لم يحيله تماما كغيره، ظل في الواجهة يتراجع ولا يختفي، يعود ذلك الى طبقة المناضلين السميكة التي صمدت في وجه عواصف الاحالة، تراجعت نعم! لكنها ظلت متمسّكة بالواجهة، تراهن عليها، تتراجع ثم سرعان ما تعود لتتصدر، تلك ثقافة التأقلم مع الغضب الشعبي.
انه وخلال غضبة الشعوب واندفاعها بقوة نحو تغيير جلد السلطة، تحتاج الكيانات السياسية الى نواة صلبة تمسك معها حافة البقاء، تصبر على الكدمات وتتعايش مع الاكراهات وتثابر حين تختفي الاغراءات وتبقى حين تنصرف المحاضن الهشة، ما عدا النهضة تفتقد الأحزاب التونسية التي تطفو وتختفي بسرعة، الى كتلة “الحياة” تلك التي تكبّن على جسمها وتتلقى الضربات وترفض فتح فجوة للموت كي يمر، تماما كشجر الصنوبر يحمي خضرة الجبل في ليالي الشتاء القاسية، يصمد في وجه النو.. بعدها وحين يأتي الربيع يستريح الصنوبر من عناء الحماية.. فالأزهار كما ليّن النّبت تأتي حين تضع الزوابع أوزارها.. يأتي النوّار فقط حين تشرق الشمس، أما محن الظلام الدامس، فليس لها غير صفصافة قديمة، وخوخة واقفة، أفلتت من لهيب المحرقة.