المشهد حاليا عبثي وينتظر أن يكون أكثر عبثيا في المستقبل
الحبيب حمام
تونس تسير بالسرعة القصوى نحو المجهول. قد يقول قائل “لمَ تقول هذا؟ أنت هدام، كن بنّاءً، وقدّم حلولا، واستبشر”. نعم الحل أهمّ من المشكل، ولكن ليكون هناك حل يجب تشخيص المشكل. لنبدأ بتشخيص المشكل.
التشخيص:
وقعت انتخابات، الفائز الثاني فيها رئيس عصابة، مافيوزي، كلامه من السرّة إلى الأسفل، وخطاباته سب للجلالة، مشروعه إفساد خطوبة المدوّن فلان بالقدح فيه، وتصويره وتصوير أهله خلسة، والإيقاع بالقاضي فلان، وتلفيق التهمة لعلان، والتهرب الضريبي، وتبييض الأموال، و”علاش عملنا القناة، ماهو باش نحكموكم”.
في المقابل وفي مشهد عبثي آخر، فاجأ الشباب الجميع، وأنا من بينهم (توقعت صعود المافيوزي للدور الثاني من شهر أوت، ولكن لم أتوقع صعود قيس سعيد) بانتخاب رجل مجهول غامض:
- لا يعملون صفته، ظانين أنه أستاذ جامعي، والحال أنه مساعد.
- ظانين أنه باحث في القانون الدستوري، والحال أنه لم يقم بأبحاث مطلقا، ولم ينشر ورقات بحثية في مجلات علمية دولية مُحكّمة ( Revues scientifiques internationales avec arbitrage par des pairs, Peer-reviewed international scientific journals )، ولم يقم برسالة دكتوراه أصلا.
- ظانين أنه له سيرة ذاتية جامعية لامعة، والحال أنه لم يبدأ صعود سُلّم الأستاذية أصلا.
- ظانين أنه مستقل، ولا يقف وراءه أحزاب، والحال أن وراءه حزب مسجل ومتحصل على تأشيرة وقدم 28 قائمة للانتخابات التشريعية قبل أن يموت الباجي، رحمه الله، ويقع الإعلان عن انتخابات رئاسية سابقة لأوانها.
- ظانين أنه سينسف منظومة الأحزاب، والحال أنه انطلق منها، وله حزب وراءه.
- ظانين أن الانتخابات التشريعية لا تعنيه، والحال أن 28 قائمة تشريعية وراءه.
- ظانين أن له برنامجا مفصلا للاستجابة لطموحات الشباب ولحل مشاكله، مثل البطالة والتهميش، والحال أنه ليس له أي برنامج سوى فتح “مرمّه وشانطي كبير”، يستغرق كل فترته الرئاسية وأكثر، ينسف فيه مقومات الدولة ويدخلنا في فوضى عارمة.
- ظانين أن ما قدم لهم من مشروع لنظام حكم جديد، اسمه “نظام المجالس المحلية”، هو نظام جديد مبدع سيغير وجه تونس إلى الأفضل، والحال أن ترجمة “نظام المجالس المحلية” إلى اللغة الروسية هو “نظام السوفياتات”، وهو نظام ماركسي لينيني دعا إليه رضا لينين منذ بداية الثمانينات، وليس جديدا. إليكم هذا الرابط لتعلموا ما معنى “نظام المجالس المحلية” وترجمة ذلك إلى الروسية، وتاريخ هذا النظام: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B3%D9%88%D9%81%D9%8A%D8%AA
- ظانين أن مرشحهم، السيد قيس سعيد، سيشرح برنامجه بالتفصيل، والحال أنه تجنب الإعلام، وقد نعذره في ذلك، ولكن هناك يوتيوب وفايسبوك، ولا عذر له.
- ظانين أن مرشحهم سيسقط الإيديولوجيا، والحال أن برنامجه ماركسي لينيني ينبع من إيديولوجيا عميقة، وأن من حوله غارقون في الإيديولوجيا حتى النخاع.
- ظانين أنهم على اتصال وثيق بمرشحهم، والحال أنه أسير ومحاصر من مجموعة ضيقة يسارية مؤدلجة.
أقول هذا ليس انتقاصا من الرجل، فالرجل بأخلاقه ومواقفه وعمله الصالح، وليس بشهائده وبمن حوله، ويقول تعالى “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، ولكنه توصيف لا بد منه لنتقدم. قد يقول قائل “وكأنك تدعو إلى انتخاب القروي”، أقول “أنت جزء من المشهد العبثي، ولا تريد مواجهة الحقيقة، وتطلب مني أن أخنق أنفاسي وأتكتم عن الغموض ولا أطالب بكشف المجهول لأن المعلوم (القروي) مرفوض”. أليس من العقل أن نكون على بينة من أمرنا، وأن نعلم ما ينتظرنا إذا اخترنا أقل الشرَّيْن.
هل تقف المشكلة هنا، أمام هذا المشهد العبثي: مشروع مافيوزي ومشروع غامض؟ لا، الآتي لا يبشر بخير. أتوقع أن يكون المشهد البرلماني أكثر عبثية: كتل صغيرة متفرقة متنافرة متشاكسة، فيها كثير من الاختراقات (عيش تونسي، …)، يصعب معها تشكيل حكومة.
إن عجزنا، معاذ الله، عن تشكيل الحكومة مرارا وتكرارا، سيؤدي ذلك إلى إعادة الانتخابات، وهنا تبدأ الفوضى. المواطن التونسي يعاني من البراكاجات كل يوم، والمرأة التونسية أصبحت لا تأمن على صغيرها وهو تحت أنظارها في آخر النهج، فكيف بنا وليس لنا حكومة!
بعد هذا التوصيف أدعو إلى إنقاذ شيئين: إنقاذ الرئاسة وإنقاذ البرلمان.
إنقاذ الرئاسة:
- إقناع السيد قيس سعيد، الذي لا نظنه إلا صادقا شريفا نظيفا، بالتخلص من البطانة اليسارية المؤدلجة حوله.
- إقناعه بالتخلي عن مشروع “نظام المجالس المحلية” وتغيير الدستور، والتركيز على مهماته في الخارجية، والدفاع، والأمن القومي، وحماية الدستور.
- إقناعه بالخروج إلى الناس وطمأنتهم (يوتوب، فايسبوك، … كما يريد) بأنه سيحترم الدستور الحالي ولن يدخل في مشروع عواقبه وخيمة.
- إقناعه بالخروج إلى الناس وتفصيل مشروعه المفصل لخدمة الشباب الذين انتخبوه، وعدم الاكتفاء بالقول “سنقوم بتشريعات لصالح الشباب”، نحتاج مشروعا مفصلا لهذه التشريعات.
- إقناعه بالخروج إلى الناس وتفصيل مشروعه للسياسة الخارجية، وعدم الاكتفاء بالقول “تونس في متوسط المتوسط والشعب التونسي متفاهم مع الشعوب الأخرى في شمال المتوسط والمغرب العربي”، نحتاج مشروعا مفصلا للعلاقة مع البلدان الإفريقية، لجلب الاستثمارات الأجنبية، لأزمة الديون الخارجية، لأزمة ليبيا، للعلاقة مع شرق آسيا، …
- إقناعه بالخروج إلى الناس وتفصيل مشروعه لدفاع والأمن القومي، نحتاج مشروعا مفصلا لمعضلة الإرهاب، والبراكاجات، وحماية الحدود مع ليبيا، والجوسسة التي وصلت إلى اغتيال محمد الزواري، والجرائم السيبرناتية، …
إنقاذ البرلمان:
- أدعو إلى انتخاب الأحزاب المنظمة، والتي تمارس ديموقراطية ولو جزئية داخلها، وعدم تشتيت الأصوات. السياسة تقوم على الأحزاب، هكذا الشأن في البلدان الديموقراطية العريقة، لنكفّ عن الغرور وعن أسطورة “الاستثناء التونسي”. الطريق واضح.
- أدعو هذه الأحزاب إلى تفصيل كيفية دعم الرئاسة (قيس سعيد) والتكامل معها.
- أدعو الأحزاب التي شاركت في الحكم، ولو لفترة وجيزة، ولو بتمثيلية محدودة (بعض الوزراء والولاة والمعتمدين)، أن تظهر للمواطنين ماذا أنجزت. لا عذر لمن شارك بقليل من الوزراء، بينوا للناس ماذا فعل هؤلاء القلة من الوزراء.
- أدعو هذه الأحزاب المنظمة اليوم في الحملة إلى الالتزام من اليوم بإجرآت صارمة في شأن النواب المتغيبين في البرلمان. التزموا اليوم أمام الجماهير في الحملة وكفى مراوغة. اقترح أن كل نائب برلماني يتغيب 3 غيابات دون عذر قاهر وإخبار مسبق لمكتب المجلس، يطرده حزبه فورا ويعوضه بمن بعده.
- أدعو هذه الأحزاب اليوم في الحملة إلى الالتزام بالعمل الفوري على سن قانون يمنع السياحة الحزبية. التزموا اليوم أمام الجماهير في الحملة وكفى مراوغة. اقترح أن يقع ذلك في الجلسات الأولى للمجلس.
- أدعو هذه الأحزاب اليوم في الحملة إلى الالتزام بالشفافية وبإخبار المواطنين بصفة دورية بالإنجازات الأخيرة للنواب والعوائق المصاحبة. التزموا اليوم أمام الجماهير في الحملة وكفى مراوغة. اقترح أن تقوم كل كتلة بفيديو بخمس دقائق كل شهرين واطلاع المواطنين بما وقع إنجازه وبالعوائق إن كان هناك عوائق.
وربي يحمي تونس من الفوضى والعبثية.