عبد الرزاق الحاج مسعود
لأنّني أراه مفردة من مفردات التأسيس السياسي المدني الجديد.. والمتعثّر الذي انطلق منذ 2011. تأسيس يتعثّر ويسقط ويقاوم ويواصل ويكشف تباعا كلّ أمراض المجتمع التونسي نخبة وشعبا. ومن ضمن الطفح المَرَضي الذي صعّدته الثورة نبيل القروي: الفساد الذي كان “نمط إنتاج” قبل الثورة اخترقها سريعا وحاول تعطيلها واحتواءها لكنه في الأخير اضطرّ إلى العمل بأدواتها الجديدة.
القروي شارك من موقع متقدّم في تأسيس نداء تونس. الحزب الذي وفّر للمصالح القديمة فرصة الاستمرار الحذر والمناورة لإنقاذ نفسها من داخل الديمقراطية.
ولمّا انفجر النداء بسبب تناقضات فردية خالصة، كان لا بدّ للمصالح القديمة المشتّتة والموجودة فعليا في الواقع (يعاينها الناس يوميا في الطريق والمستشفيات و…) أن تلملم أجزاءها وتدخل مرحلة جديدة. مرحلة صارت فيها أضعف وأكثر حاجة إلى “التكيّف الديمقراطي” فبادر القروي (باعتباره ركنا من أركان المصالح المتنفذة والمهددة) وأسّس حزبا لحسابه (الهاء هنا تحتاج تفصيلا طبعا) وشارك في انتخابات ديمقراطية أيضا. ارتكب مخالفات للقانون الانتخابي كبقية المرشحين المهمّين. لو أردنا أن نسقط في الشكلانية القانونية الصارمة لأسقطنا الجميع، أما الموضوعية فتقتضي الإقرار بالنتائج مع النقص الذي ينتابها وينتاب الديمقراطية المحاصرة.
تعرّض إلى حرب شرسة من داخل معسكره “الندائي” المنهار. لكنه صمد ويبدو أنه اضطرّ كل خصومه من داخل طيفه السياسي إلى العودة إليه والاستنجاد بنجاحه السياسي الأخير. وهو الآن يوشك أن يصير رمز المسار الذي دشنه الباجي الذكيّ وأفسده حافظ الأحمق (الذي استغلّ بنذالة شيخوخة والده).
القروي مافيوزي؟ أكيد. مع تنسيب واقعي ضروري: لو تفتح كلّ ملفات الفساد في البلاد سيرى الناس فاسدين أكبر منه عشرات المرات من أغلب العائلات السياسية. هل هذا يبرّر له؟ طبعا لا، لكن الواقع واقع.
هل هذا تبرير لفساده؟ لا بتاتا. هو إقرار بأن الفساد معطى مجتمعي/سياسي/اقتصادي يحتاج معالجة قانونبة وسياسية. من ضمن المعالجة السياسية أن يحاصر المستفيدون من الاقتصاد الريعي الاحتكاري الحالي داخل مربع الفعل السياسي العلني. الفساد يُستنزف ويُكشف ويلاحق ويفضح تدريجيا بالمراقبة الإعلامية الحرة والعمل المدني الجمعياتي الحرّ والديمقراطية الزاحفة ببطء.
القروي رئيسا (بعبارة حمّة المسروقة من أولاند) سيكون ملاحَقا بصورته الشعبوية التي صنعها لنفسه لدى الناس، وسيلزمه ذلك بنوع من “الدَّيْن المعنوي” تجاه الفقراء (يسميهم سعيّد المهمشين في االتقاء شعبوي موضوعي). (لا اتبنى طبعا مقاربة كليهما لحل مشكلة الفقر لدى القروي ومشكلة ادماج المهمشين في الحكم لدى سعيد وهذا موضوع آخر).
القروي رئيسا سيكون شعبويا بسيطا (ربما مسلّيا) لا يبشر بثورة/فوضى تنظيمية تقلب كل شيء رأسا على عقب بدعوى ضمان مشاركة كل الشعب في الحكم. سيكون محاصرا في شعبويته “الغذائية” (لا المجالسية ما بعد الحداثية) بالدستور الذي ينصّ على السلطة المحلية (وهي أبدع ما في الدستور الحالي).
القروي رئيسا سيكون محاطا بما بقي من السلالة “الندائية” (المتنوعة بين يسار ويمين ليبراليّين) المنهكة المتطلعة لاستعادة مشروعها الذي يظلّ سياسيا ليبراليا لا يزايد بالدعوة إلى القطيعة مع الامبريالية العالمية في دولة/ديمقراطية بالكاد تتحسّس شكلها.
•••
في المحصّلة:
أنا سأصوّت لمن أعرف بكلّ عيوبه وبكلّ ما لا أستطيع أن أطالبه به.
تصويت بـ”عقل” يدرك حجم ما تحقّق من مأسسة للحرية القليلة وللحداثة (الديمقراطية المدسترة) في تونس، ويدرك حجم مخاطر الفوضى وجحيم الشعار…
•••
وراء كل طوبى (حلم سخيف) محارق كبرى.
•••
• ملاحظة: كم أمقت ذاك الشعار التبسيطي الذي يردد: لولا فشل كل السياسيين بعد 2011 لما ظهر لا سعيد ولا القروي. للنخبة امراضها وفضائلها أيضا. وللواقع عقله المهيمن على الجميع.
• توضيح: لا أريد إقناع أحد بموقفي هذا،
أنا هنا أبلور موقفا عقلانيا فرديا خالصا، من أراد أن يناقش الرأي ليتفضّل،
من يريد أن يلقي دروسا في المبادئ والعواطف السياسية الجياشة يفعل في جداره.