الشاهد : النيزك الذي بسرعة احترق

مهدي مبروك

قدم يوسف الشاهد الى عالم السياسة بعد الثورة تماما كما كان حال قيس سعيد رغم انهما انطلقا من خلفيات وتجارب و رؤى مختلفة ففي حين ارتمى قيس سعيد في أمواج الشباب الهادر في ساحة القصبة رغم فارق السن رغبة منه في التدارك فان يوسف الشاهد رغم حداثة سنه قد آثر أن يطرق أبواب الأحزاب وراهن على ما كان الجميع يعتقد انه الحصان الرابح آنذاك الحزب الجمهوري (الديموقراطي التقدمي سابقا). كان الأول صوفيا وحالما نازعا الى الفوضى أحيانا ولكنه مع ذلك الهم وأرشد الشباب الى قبلة التأسيسي التي حجت اليها النخب طوعا أو كرها آنذاك وقد وجدوا فيها ضالتهم التي خلصتهم من برلمان جثم على قلوبهم وزور ارادتهم… ظل الشاهد في الحزب وهو الذي كان يستقبل يوميا عشرات الإطارات الناعمة التي جاءت الى السياسة وقد غدت جولة ممتعة استعد لها البعض برساميل مختلفة : مال و وجاهة وخبرة وكان الشاهد يمتلك كلها : شاب متعلم حائز على شهادة الدكتوراه ، متخرج من فرنسا ينحدر من وسط بورجوازي مديني. انطلق الشاب يوسف الشاهد من استمرارية تاريخية مطمئنة لم تدرك حجم الرجة التي وقعت… لم يجد الشاب الطموح في الحزب الجمهوري ما كان ينتظر منه خصوصا بعد الخسارة المدوية التي مني بها في انتخابات 2011… حاسة الشم التي أخطأت هذه المرة تعلمت بسرعة فأدبر الى حزب جديد وكانت محطته حزب النداء الذي رفعه الى عليين… حتى ادرك وسادة الحكم… وترأس الحكومة ذات 2017..
لم يكن أحد يتوقع أن يقطع يوسف الشاهد تلك المسافة بسرعة فائقة ويبدو أن اختيار السيد الباجي قائد السبسي له رئيسا للحكومة فيما بعد قد فاجأ الجميع ويذكر العديد ممن حضر مفاوضات وثيقة قرطاج الأولى ان الراحل طلب من الفرقاء الاتفاق على شخص واحد ومنحهم مهلة بـ 24 ساعة غير انه ولما التقاهم في الموعد تأكد لديه ما كان يتوقعه فهو يعلم مسبقا أنهم لن يقدروا على ذلك فرمى لهم بعصاه فأذا هي يوسف الشاهد…
كان ترشيح المرحوم الباجي قائد السبسي شبه مجازفة وربما استند الى توصيات عائلية تحسن الظن به ويذكر الشاهد ذاته في احدى المقابلات التلفزية أن المرحوم الباجي كان قد التقاه فيما يشبه الاختبار والأرجح أن الرئيس لم يكن يعرفه معرفة دقيقة بالمعنى السياسي للكلمة فالرجلان ينتميان الى جيلين وسجلين مختلفين بينهم سنوات ضوئية… ولكن حسن الظن به والبحث عن شاب من الدوائر العائلية كانت عوامل حاسمة في ذلك الاختيار…
ومع ذلك فالطريق لم يكن مكللا بالزهور بل كان معبدا بالنزاعات التي لغمت عليه جل المسالك… تزامنت رئاسة يوسف الشاهد مع تفجر الخلافات داخل حزب النداء بشكل لم تعد فيه تحت السيطرة خصوصا وأن الرئيس لاذ بصمت وآثر، خشية ان يتم التجاسر عليه “وتمرميده”، ان يلوذ بالصمت في الكثير من المواقع. حاول يوسف الشاهد ان يستفيد من تلك الخلافات وان ينأى بنفسه عن الصراعات قدر الإمكان خشية أن يدفع باكرا ثمن تخندقه باهضا.. منحازا ضمنيا الى العائلة فحاز عل شرف تعيينه حكما ضمن لجنة 13 التي ترأسها (ديسمبر 2015)… ومع ذلك لم يصمد طويلا في محراب الحكمة وسرعان ما اشتغل لحسابه الخاص حريصا على ان يجني محاصيل الخلافات تلك وتجييرها الى رصيده وقد أدرك أخيرا ان السياسة الحقيقية كانت تدار خارج أروقة القصبة ودخل لعبة السراديب المعقدة والمظلمة (رجال الاعمال، لوبيات الضغط، المتنفذين من اسواط الاعلام، بعض اركان الدولة العميقة).. وكانت تلك بداية الأخطاء القاتلة التي سيدفع ثمنها لاحقا وكانت آخر دفعة مؤلمة تلك التي دفعها يوم 15 سبتمبر 2019.
لم يعاقب يوسف الشاهد في اعتقادي لمجرد آدءاه السياسي خلال الحكم ولا أيضا للركود الاقتصادي وسوء أحوال المعاش ولكن اعتقد أن ترتيبه الخامس وتلك النسبة من الأصوات التي تجاور فيها مع الصافي السعيد المرشح المستقل، كانت عقابا بليغا له. وحتى نفهم هذا العقاب القاسي علينا أن نعود الى الأشهر الأخيرة التي كانت في اعتقادي حاسمة دون اغفال تلك العوامل التي شكلت خلفية لما حدث ومحددا حاسما في تكثيف مختلف المشاعر والمواقف المناهضة له ومن تلك المسائل التي وجهت الاعراض عنه:
الصراع الذي خاضه يوسف الشاهد مع الباجي قائد السبسي الذي لم يستوعبه الكثير من الناخبين والذي بدا فيه وكأنه “الابن العاق لابيه” الذي لم يعترف بجميل من منحه فرصة المجد وقد ترسخت هذه الصورة اثر موت الباجي قائد السبسي التي ظلت روحه تحوم هنا وهناك. فهم البعض دموع يوسف الشاهد أثناء مراسم التأبين لا على اعتبارها دموع رحمة بل دموع الندم والشعور بالذنب والاثم. كانت ميتة الباجي رحمه الله قد ساهمت في خسارته.
الرئاسة التي أذلها، الرئاسة التي يلهث وراءها : لم يستوعب الكثير من الناخبين كيف أن رئيس الحكومة الذي خاض صراعا مريرا مع الباجي قائد السبسي (مؤسسة الرئاسة التي أعادها الى حجمها الضئيل عندما تبين له انحراف الباجي الرئاسوي وانحيازه الى ابنه تحديدا) حتى يوقف الانحراف الرئاسوي االجارف، يحرص في النهاية على الظفر بها.. بدا للعديد أن طموح الشاهد الذي لا حد له والنهم على المناصب العليا قد دفعاه الى افتراس ما حوله من رجال ومؤسسات اشباعا لغروره لا غير.
اقالة وزراء لم تخل من إهانة : حطم السيد يوسف الشاهد رقما قياسيا في اقالة الوزراء : ناجي جلول، لمياء الزريبي، سلمى اللومي، عبيد البريكي، خالد بن قدور، ماجدولين الشارني، مبروك كورشيد الخ فضلا عن عدد من الاستقالات الأخرى التي اضطر اليها البعض من وزرائه وهو أول رئيس حكومة يواجه في انتخابات عددا مرتفعا من وزراء، كانوا أعضاء في حكومته، منافسين الداء له. لا نريد أن نقيم ان كانت إخفاقات وزرائه تستحق تلك الاقالات أم لا ولكن المؤكد ان تلك الاقالات كانت فاقدة أحيانا للياقة الواجبة بروتوكوليا: التضحية بناجي جلول ليلة عيد الشغل سنة 2018 فضلا عن تصريحات عبيد البركي التي أكدت باندفاع الشاهد ورغبته في اقالته بشكل مهين… بدا للكثير من خصومه أن الرجل “آكل بشر” بالمعنى السياسي ولذلك اصطفوا ضده وواجهوه.
بين حروبه النبيلة وتصفيات حساباته مع خصوصه : يذكر الناس أن يوسف الشاهد كان قد بنى جزءا من مشروعيته التي بدأت تتأكل بعد سنة من الحكم على مكافحة الفساد وهو بهذه المعركة أراد في حقيقة الأمر أن يضرب عصفورين بحجر واحد أي سحب بساط هذه المعركة أولا من تحت اقدام سامية عبو والتيار الديموقراطي عموما الذي تنتمي اليه حتى لا تكون هذه المعركة حكرا عليه وسجل تجاري له لا يشاركه فيه أحد وثانيا التخلص من “فاسدين” انحازوا الى خصومه السياسيين واختار أن يرمي شبكته في ضربة “معلمية” في ذلك البحر الأهوج فاصطاد شفيق جراية وبعض رجال أعمال من مهربين تحديدا. لم تكن الملفات القانونية معدة بشكل جيد وقد تكون رافقتها عدة تجاوزات وخروقات مست بحقوق المتهمين تورطت فيها بعض أجهزة الدولة. وتوقفت الحرب عند هؤلاء بشكل بدا وكأنها انتقائية ولعل تسريح البعض منهم لاحقا قبيل الانتخابات لم يزد الا ترسيخا لتلك الشبهات التي تحوم حول استعمال الشاهد القضاء وغيره من أجهزة الدولة في تصفية حساباته وقد تدعمت بشكل سافر اثر ايداغ نبيل القروي “رجل الاعمال” وصاحب قناة نسمة التلفزية ورئيس حزب قلب تونس السجن وهي شبهات دعمتها تصريحات سليم الرياحي لاحقا وقد عمقت من تلك المخاوف التي لم يتصدى لها الشاهد ويبددها اثناء حملته الانتخابية حتى يطمئن الناخبين.
حزب تحيا تونس : من حزب قاطرة الى عبء ثقيل: لم يكن حزب تحيا تونس مشروعا سياسيا حقيقيا. لقد تناسل من نداء تونس فحمل جل أمراضه : حزب “انتخابي” فاقد لمشروع سياسي عميق يمنح به بديلا للناس ويتمايز به أيضا عن غيره من الأحزاب التي تشابهت على التونسيين… كان الحزب خليطا هجينا من الطامحين والطامعين والفارين واللائذين من مختلف اشكال المتابعة والرهاب… على أمل ان يفوز… في المحطات الاختبارية الأولى التي تجسدت في الانتخابات البلدية المعادة تبين ان النتيحة مخيبة وان تراب الأرض لم تعدا ملكا له وان الماكينة التي تصارع عليها مع خصمه ابيه اللدود لم تعد قادرة على الحركة بل هي تصارع من أجل البقاء… كان ميلاد الحزب متأخرا ومتعسفا، “السبوعي السياسي”، الخديج” سرعان ما انهار ولم يقدر على رفع ابنه الساهد الى أعلى…
هذه الصورة التي انطبعت لدى فئات واسعة من الناخبين خصوصا وان الرخاء الاقتصادي الكفيل بتنسيب الصورة أو تفتيتها ظل شحيحا ولذلك عزفوا عنه الناخبين. اخفق يوسف الشاهد في ان يرسمل توليه رئاسة الحكومة وظل رغم الجهد المبذول في الحملة الانتخابية وآدائه الجيد مغامرا سياسيا… بلدوزار “لا يتوقف اذا عمر” الا اذا خلا ما حوله…
يوسف الشاهد ولد سياسيا بسرعة وقد يختفي بسرعة… انه النيزك الذي سرعان ما احترق… في انتظار ميلاد نيزك آخر ولو على هيئة بعث جديد.
تنويه : هذا المقال هو الثاني في سلسلة من المقالات التي اتناول فيه الخاسرين في الانتخابات الرئاسية 2019
الشاهد: النيزك الذي بسرعة احترق

Exit mobile version