ظاهرة هتك "الحقيقة" وانقلاب المفاهيم في مجتمعات المعرفة

بشير العبيدي

دموع_القلم
منذ بداية ثورة المعلوماتية قبل عشرين سنة، وانتشار الشبكات والهواتف الذكية، وعولمة الأنماط، وانتشار الصورة والفيديو بشكل لا سابق له في التاريخ، ها قد بدأت إرهاصات أولية لنتائج هذا الجيل المعولم، وسأبدأ اليوم في وصف أخطر ظاهرة على الفكر الإنساني أعتبرها من آثار مجتمع المعلوماتية.
الظاهرة أسمّيها “هتك الحقيقة” بمعناها الفلسفي. وما معنى هتك الحقيقة؟ لنتعرّف أولا على دلالة فعل “هتك” بالعربية : بحسب معجم مقاييس اللغة وهو من أمهات معاجمنا العربية، “الهاء والتاء والكاف: أصلٌ يدلُّ على شَقٍّ في شَيء. والهَتْك شَقُّ السِّتر عمَّا وراءَه. وهُتِكَ عَرشُ فلانٍ: هُدَّ وشُقّ. وسِرنا هُتْكةً من اللَّيل، أي ساعةً. وهاتَكْناها: سِرْنا في دُجاها. والمعنى أنَّا شَقَقْنا الظَّلام”. وهتك الحقيقة معناه شقّها وتقسيمها مما يؤدي إلى تشظّي المعنى، وفقدان الانسجام العام للفكرة من الأساس. وخطورة هذه الظاهرة من الناحية الواقعية كبيرة جدا، ومدمرة.
لا أتحدث ههنا عن نظرية النسبية، ونسبية الحقيقة. يوجد فرق شاسع بين أن تكون الحقيقة نسبية، أي تختلف النظرة إليها من خلال زاوية النظر، وبين أن تكون الحقيقة موازية ومختلقة وافتراضية، تناكف الحقيقة الماثلة وتهدّد المعنى بالانهيار في العبثية المقيتة.
أجل، لقد دخلنا في عصر جديد صار الهروب فيه من الحقيقة الدامغة يتم عبر استحداث وهم الحقيقة الموازية أو الحقيقة المتعددة أو الحقيقة البديلة، كأسلوب للإمعان في رفض الرضوخ لاستحقاق الحق المبين. وهذا الأمر انطلق مع الأمريكان حيث انطلقت الثورة المعلوماتية، ومن آثارها، الرفض العدمي للحقائق الماثلة، واختلاق حقيقة موازية أخرى، والمضي فيها، وهذا هو المنطق الذي برر به الأمريكان غزو العراق وقتل مليون ونصف المليون عراقي، وهذا هو المنطق الذي نشأت في ظله داعش وتم إنهاء وجود داعش، ولم نعرف من أنشأها ومن أنهاها ولماذا، وأسدل الستار، وتمّ رواية حقيقة “موازية” أو حقيقة “بديلة”، واعتمادها، ورفض كل شيء دامغ ماثل أمام الأعين يكذب الرواية الرسمية. هذا على مستوى الدول والمجتمعات.
أما على مستوى الأفراد، فظاهرة هتك الحقيقة صارت ظاهرة منتشرة جدا في جميع المجتمعات التي غزتها الشبكات المعولمة، ويمكن لأي متابع أن يرى أثرها على مستويين اثنين:
• المستوى الأول :
هتك الحقيقة الماثلة واعتماد حقيقة موازية لرؤية الأحداث الكبرى، والرفض العدمي للأشياء التي تعتبر إنسانيا من بين الحقائق الدامغة. مثال ذلك: إجرام المستبدين وإرهابهم والخسارة العظمى التي ألحقوها بشعوبهم، كل ذلك ماثل أمام الأعين، في الشبكات، بالأرقام وبالصور وبالفيديو والضحايا أمام الأبصار، أحياء يشهدون، والمنظمات الدولية توثق، وتنشر المحافيظ، وتثبت الوقائع بالدقائق والثواني، وتضع كل ذلك على مرأى العالم، ومع ذلك، تجد جموعا من الناس، تترك كل الأدلة جانبا، وتنقل صورة أخرى عن هؤلاء القتلة الإرهابيين، وتمجد أعمالهم، وتصفهم بأوصاف العبودية، وتلحس أحذيتهم، وتصرّ إصرارا على أنهم أنصاف آلهة. ولقد كان الناس في زمن مضى يقولون: لا نؤمن حتى نرى بأعيننا، فهم اليوم يرون بأعينهم، والشواهد موثقة وصحيحة وحقيقية أمامهم، والحقيقة الدامغة ماثلة، ومع ذلك، يصرّ ناس على أن ذلك لم يكن، أو في أحسن الحالات يقولون لك: ذلك الجزاء هو العدل والإنصاف في هؤلاء لأنهم يستحقون. كم شقيتُ بأناس تقول لهم: يا راعكم الله، هذا الحاكم قتل فلانا، وسلخ فلانا، وأدخل قارورة في دبر فلان، ودفن فلانا في خرسانة اسمنتية، وهتك عرض فلانة، واغتصب فلانة أمام ذويها، فيجيبك : وأين المشكلة؟ لعمري، إن لم يكن هذا هو العمى، فما العمى أيها العميان؟
• المستوى الخطير الثاني :
دكتاتورية الصورة في زمن مجتمع المعرفة، حوّلت البشر إلى أناس بدائيين، كما كان الإنسان بدائيا في أوله. وهذه البدائية هي بسبب الانتشار الكاسح للصورة والفيديو، وهذه الصورة طغت على الكلام الذي هو مظهر محسوس للتفكير والتأمل الداخلي، فلم يعد الإنسان من ضحايا الصورة قادرا على تحويل ما يراه في الصورة إلى أفكار ومشاعر وأحاسيس، إلى درجة أنه يرسل أيقونة لكل إحساس أو لكل جملة يريد قولها، وهي صورة بدائية نراها في الكتابة الهيروغليفية القديمة التي تمكن البشر من اختراعها بعد مئات الألوف من السنين في العيش في الكهوف في أزمنة غابرة لا نعلم عنها اليوم شيئا. إن الصورة المعاصرة بشكلها الثابت والمتحرك مدمرة للفكرة المصاغة كلاميا، لأن الفكرة فيها منطق وبنية ومحاججة ومقارنة ومناظرة وقياس، أما الصورة فيتشرّبها الإنسان بألوانها كما هي من دون قدرة على تحويلها إلى معان، لذلك كثر العنف بسبب العجز عن تصريف العنف الداخلي بالحوار والحديث والمحاججة، وكثر العناد وكثر التشظي والفردانية والشخصنة الموغلة في الأنانية، لأن هذه الظواهر العنيفة كان الإنسان المتطور في فهمه يُصَرّفها ويَصْرفها عبر الكلام والحكمة والبيان والعقل، أما والصورة قد قتلت البيان، فقد دفعت الإنسان إلى حالة من التقلص البدائي، وهو السبب الجوهري الذي يفسر رفض القرآن الكريم لبداوة الأعراب، وشنه عليهم أشنع الهجومات : الأعراب أشد كفرا ونفاقا…
ستلاحظون أنني لم أتناول موضوع اكتفاء كل شخص بهاتفه الذكي، وقطعه للصلة مع المقربين إليه في الأسرة، لأن ذلك عندي عرض وليس سببا، والسبب الذي أرجّحه هو ما ذكرت أعلاه من هتك الحقيقة الماثلة واختلاق الحقيقة الموازية والوقوع ضحية الصورة، مما أوعب في النفوس صورة مشوهة للوجود الإنساني.
هذا ما خلصتُ إليه من بدايات لآثار ظاهرة هتك “الحقيقة” في مجتمع المعرفة، أرى ذلك من حولي، عند الناس جميعهم من عجم وعرب، وأعتقد أن الحلول تبدأ بطرح المشكلة أولا وفهم أسبابها وآثارها. وعندي أن التعليم سيكون المدخل الأساس لتصحيح الوضع، وأقترح إدخال مادة تعليمية جديدة منذ المرحلة الابتدائية، تعنى بالتهيئة لمجتمع المعرفة، وتضع أسسا إنسانية تحمي الحقيقة والمعنى وتحمي كوب الأرض من فساد التفكير وفساد التدبير.
ولله عاقبة الأمور.
✍🏽 #بشير_العبيدي | محرّم1441 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تصْنَعُ أمَلًا

Exit mobile version