بعض الضوء على الشعبوية وشروطها التاريخية والسياسية…
محمد الحاج سالم
إلى بعض المتشدّقين بالنخبويّة مقابل ترذيل الشعبويّة دون فهم لتاريخها وأوليات اشتغالها ويسبّون شيئًا لا يفهمونه ويوهمون بفهمه… وخاصة إلى بعض المعلّقين البائسين على فضائيات اللوبيات الماليّة السياسيّة، أقول باختصار شديد ومخلّ، إذ الهدف ملامسة موضوع يستحقّ كتبًا لفهم سياقاته العامّة والمحليّة (تونس):
الشعبويّة هي بادئًا نمط تعبئة واحتجاج ضدّ المعاناة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة قبل أن تكون نظام حكم… وممّا يزيد في خروجها عن التقليد، هو أنّها تُقرّب بين فاعلين ممّن كان يُظنّ قبلاً أنّهم على طرفي نقيض… فهي سياسيّة أكثر منها إيديولوجيّة… وهي تنبع من باثولوجيا النظم السياسيّة الحديثة التي تعرّضت بعض خصائصها التي كان يُفترض بها أن تحرّكها وتنشّطها، إلى التعطيل بحيث إنّها لم تعد تعمل، فصارت تجرف معها مجمل الميكانيزمات الاجتماعية وتضعها في حالة من الفوضى العميقة… وبقطع النظر عن التغاير الذي يُواجه بين شعبويّة يمينيّة وأخرى يساريّة، فإنّ الفارق بين هذين التوجّهين الأساسيين هو بادئًا فارق تاريخي يرتبط بأصول الزعماء وتحدّر الأطر القياديّة. وهو ينبع كذلك من ثقافة نضاليّة جرى استخلاصها وتكوينها وصياغتها على اليمين، داخل الأحزاب المحافظة، وبل داخل زُمُر أقصى اليمين، أو جرى تصنيعها وقولبتها على اليسار، في النقابات المهجورة أو في الأحزاب الجماهيريّة القديمة التي حطّ بها الزمان وباتت اليوم هزيلة…
ولبروز الشعبوية ثلاثة اعتبارات:
- اعتبار يعود إلى التاريخ المؤسسي: فقد وُلدت الشعبوية مع عصر المشاركات الشعبية والتعبئات السياسية والتحشيدات الاجتماعية، ثمّ وبخاصّة مع اختلالاتها. فأزمة الأواليات الديمقراطية والتمثيلية تركت الشعب وحيدا في مواجهة الحائزين على السلطان، وهنا تُولد الشعبوية عندما يغتنم المبادرون السياسيون هذه المناسبة للتنديد بالنظام المتهافت الباطل…
- الاعتبار الثاني سياسي ويتّصل بشروط العرض السياسي والحزبي. فالشعبوية تريد لنفسها أن تكون نقدية إزاء بقية المبادرين السياسيين الذين تندّد هي بعدم كفاءتهم وافتقارهم إلى الأخلاق والمعرفة الحميمة بالشعب…
- والاعتبار الثالث والأخير يعود إلى وظيفة الشعبوية ذاتها، فهي في الغالب متماهية مع تيار سياسي أو إيديولوجي مفترض، في حين أنّها ليست كذلك… فهي علامة على مَرَضيّة مزدوجة ضربت المؤسسات السياسية والعَرْض السياسي، بحيث تكون النتيجة ذاتها مَرَضيّة باثووجيّة يُفاقم من ويلاتها سياق البؤس الاقتصادي والاجتماعي، بحيث تُصبح توصيفًا لأوضاع إحباط واستلاب، بأكثر ممّا تؤشّر على قيادة سياسيّة جديدة…
ما أوردناه مقتبس باقتضاب شديد من كتاب أنصح بالاطلاع عليه:
عودة الشعبويّات: أوضاع العالم 2019، إشراف: برتران بادي ودومينيك فيدال، ترجمة نصير مروّة، مؤسسة الفكر العربي، بيروت، 2019، 399 صفحة.