من سيكون المنتصر في الانتخابات التونسية ؟

عادل بن عبد الله

للوهلة الأولى، قد يبدو السؤال الوارد في العنوان محاولة لاستشراف نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية بتونس أو للتأثير المخاتل في نتائجها. ولكنّ هذا المقال لا يندرج في الخط الذي تتبناه الكثير من عمليات سبر الآراء (الممنوعة بحكم القانون)، التي تحاول توجيه الناخبين والتأثير في نوايا التصويت؛ من خلال طرح معطيات أقل ما يقال فيها إنها فاقدة للمصداقية وخاضعة لاستراتيجيات دعائية لا قيمة لها من الناحية العلمية القائمة (أي انعدام قابليتها للمراجعة والتفنيد). فنحن سنطرح سؤال”الانتصار” بعيدا عن المعطيات السياقية (لكن دون إنكار أهميتها)، أي إننا نتحرك من منظور استراتيجي مداره هذا السؤال المركزي: ما هي الأطراف التي ستنتصر بالضرورة مهما كانت نتائج الانتخابات؟
رغم غلبة السوداوية على الناخب التونسي لأسباب متعددة، منها الموضوعي ومنها النفسي المشروط بآليات الدمغجة الإعلامية، بل رغم غلبة تلك السوداوية على مجموع التونسيين الذين تصدروا قائمة البؤس في العالم سنة 2015، حسب المؤشر الذي وضعه الخبير الاقتصادي الأمريكي آرثر أوكن (Arthur Okun) (وهو مؤشر قائم على البطالة والتضخم)، حيث حصلت تونس على 20.1، بعد عام واحد من عودة المنظومة القديمة وحلفائها إلى واجهة السلطة، فإن استمرار المسار الديمقراطي، بكل ارتكاساته وهشاشته، يثبت أن السوداوية ذاتها قد أصبحت (بضرب من مكر العقل في التاريخ) عاملا مساهما في ترسيخ الوعي الديمقراطي.
فرغم سعي المنظومة القديمة وورثتها إلى ترذيل الفعل السياسي، وإلى بث اليأس في إمكانية الانعتاق من منظومة التخلف والتبعية والجهوية، أثبت عدد المسجلين الجدد في سجلات الناخبين (أكثر من مليون و480 ألف ناخب جديد) أنّ التونسي ما زال قادرا على الحلم وعلى الثقة بنفسه وبالمستقبل، بصرف النظر عن توفر الشروط الموضوعية الملائمة لتحقيق ذلك الحلم “الآن وهنا”، كما أثبت تعدد المرشحين (ومن ثم تعدد القواعد الانتخابية) أنّ زمن الزعيم الأوحد و”دولة الحزب” قد أصبح جزءا من الماضي السياسي لتونس، ولم يعد قادرا على تشكيل مستقبلها. وهو ما يعني انتصار “الانتقال الديمقراطي” الذي أصبح أغلب التونسيين واعين بأنه مسار وصيرورة وتراكم، وليس منجزا نهائيا أو حتمية تاريخية.
لقد فشلت المنظومة القديمة وأذرعها الإعلامية والنقابية والأمنية في أن تحول بين التونسي وقلبه، أي أن تحول بينه وبين حلمه في تأسيس الجمهورية الثانية، رغم كل ما قامت به للانقلاب على الثورة والعودة إلى مربع 13 كانون الثاني/ يناير 2011 أو حتى إلى مربع 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987. ونحن قد اخترنا الحديث عن “القلب” لأن المسألة تتجاوز الحسابات العقلانية الباردة أو المصالح الشخصية الآنية. فلا أحد ينكر أنّ الواقع الموضوعي (بمؤشرات الاقتصاد) لا يمكن أن يكون ظهيرا لأي تفكير براغماتي يختزل القضية في المصالح “المادية” لأغلب التونسيين، ولكنّ ترسّخ الوعي الديمقراطي والإقبال الكبير على التسجيل، (مع إشارة أغلب عمليات سبر الآراء الجادة إلى أن نسبة العزوف عن الانتخاب ستختفي بدرجة كبيرة)، كل ذلك يؤكد أن نسبة كبيرة من التونسيين أصبحت تؤمن بأن تحقيق الحاجيات الأساسية (خاصة الطعام والأمن) لا ينفصل عن مطلب الديمقراطية، وهو ما يتعارض جذريا مع خطابات ورثة المنظومة القديمة وخياراتهم العملية.
إن انتصار الديمقراطية لا يعني بالضرورة انهزام أعدائها (في الداخل والخارج) بصورة كاملة، أو تجاوزها مرحلة الديمقراطية الصورية الخاضعة للمال السياسي ولنفوذ السفارات. بل كل ما يعنيه أن الديمقراطية قد أصبحت “الخطاب الكبير” الذي لا يستطيع أي فاعل قانوني المجاهرة بعداوته، وإن سعى إلى توظيفه لغايات غير ديمقراطية. فالمنظومة القديمة التي كانت التعبير المثالي عن منطق الاستبداد وأحادية الرأي؛ كانت أكبر مستفيد من المناخ الديمقراطي الذي لم تكتمل شروطه الفكرية والمؤسساتية. فلم يكن لأغلب ممثلي المنظومة القديمة والمنظومة السلطوية الجديدة التي ورثتها أن يحلموا بتدرج اجتماعي وبوجاهة ونفوذ أكثر من تلك التي وفرتها لهم الثورة، ولكنّ أغلبهم تعامل مع استحقاقاتها بمنطق أبعد ما يكون عن مضمون الآية الكريمة: “هل جزاء الإحسان إلا الإحسان”. ونحن هنا لسنا في وارد محاسبة هؤلاء أو بسط تبريرات مشايعيهم، فكل ما يعنينا هو الإشارة إلى أن الانتقال الديمقراطي ما زال هشّا وقابلا للارتكاس بحكم وجود أطراف سياسية “لاوظيفية” من منظور الجمهورية الثانية.
لكنّ “اللاوظيفية” من المنظور المعياري، لا تعني أنّ وجود ورثة المنظومة القديمة وحلفائهم في المنظومة التوافقية؛ هو مجرد عبث أو واقع لا يقبل العقلنة القائمة على “المقاربة التفهمية” بالمعنى الفيبري للكلمة. فهذا الواقع هو محصول خيارات تأسيسية كبرى ومحصول توازنات محلية وإقليمية ودولية من جهة أولى، وهو أيضا محصول أداء المعارضة والمجتمع المدني بمختلف أطيافه ومؤسساته من جهة ثانية. ولكنّ ذلك لا يعني ألبتة أنه واقع لا يقبل الخلخلة أو التغيير بمنطق التراكم. ولا شك في أن الانتخابات القادمة لن تذهب بريح ورثة المنظومتين السلطويتين القديمة والجديدة، ولكنها ستزيد من حدة تناقضاتها الداخلية، ومن عدم قدرتها على مركزة السلطة في زعيم أو جهة أو أو إيديولوجيا كما كان الشأن زمن المخلوع ومن سبقه. فمهما كانت نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية، ومهما كانت قوة المال الإماراتي والسعودي الداعم لورثة المنظومة القديمة، يبدو من المحال أن تعود تونس إلى ثالوث “الزعيم- الحزب- الوطن”. وهي خطوة ضرورية ولكنها غير كافية؛ لأنها محوجة إلى انبثاق “كتلة تاريخية” تكون لحظة تجاوز جدلي “للكتلة التوافقية،” وسائر التكتلات الأيديولوجية التي لم تنعتق بعدُ من سلطة الدولة العميقة، ومن خدمة مصالحها المادية والرمزية المتناقضة مع استحقاقات الثورة حتى في حدها الإصلاحي الأدنى.
عربي21

Exit mobile version