سامي براهم
انطلقت الثّورة التّونسيّة بفرد حرق جسده أمام مركز من مراكز السّلطة ومقرّ من مقرّات الدّولة، شكل احتجاجيّ معروف في السّجون التّونسيّة حيث يجرح السّجين جسده وقد يقطع أوردته وينثر دمه أمام سجّانيه للتعبير عن الإدانة والتظلّم والرّفض وقد يعمد للانتحار شنقا أو شربا لمواد قاتلة أو حرقا، أعطى ذلك للثّورة طابعا خاصّا ينزع إلى السلميّة رغم ما رافقها من أعمال متفرّقة استهدفت مقرّات الأمن لكنّها لم تصل إلى حدّ استهداف حياة النّاس وأمنهم، تواصل مسارها بشكل هادئ تحت سقف الدّستور القديم، وكانت القصبة الأولى والثّانية حاسمتين في اتّجاه خيار التّأسيس الجديد عبر المجلس التّأسيسي الذي هيّأت لانتخابه هيئة تشكّلت من الطّيف السياسي والمدني والنّخبويّ الواسع، ضبط بشكل اتّفاقيّ القانون الانتخابيّ والتوجّهات العامّة.
كان يفترض أن يكون التّأسيس جماعيّا بالتفاف كلّ ضحايا الاستبداد والمؤمنين بالتّجديد حول مشروع مشترك جامع لكن انتخابات أكتوبر 2011 أفرزت مشهدا سياسيّا قائما على شرعيّة انتخابيّة بدون سند من شركاء النّضال ضدّ الاستبداد، هذا شرخ أوّل في صفّ تيّار الثّورة رغم أنّ السّقف الثّوري كان عاليا.
دخل الإرهاب العابر للقارّات على خطّ المسار الثّوري باعتباره فاعلا سياسيّا مشروعه إدارة التوحّش أي تخريب كلّ تعاقد يحافظ على الدّولة ومؤسساتها ويحميها من الانهيار وكان سبيله لذلك هو الاغتيال السياسي الذي يقسّم السّاحة السياسيّة ويشتّت شملها، كان يفترض أن تكون فرصة لتوحيد الصّفوف ضدّ هذا الخطر الذي يستهدف ثورة الشّعب رغم جلل المصاب.
لكن الغرائزيّة السياسيّة غلبت ووجدت المنظومة القديمة الفرصة مواتية للعودة تحت عنوان الإنقاذ الذي جمع حزب رسكلة فلول النظام القديم والأحزاب التي ناضلت ضدّ منظومة الاستبداد “جلّادون وضحايا” في تحالف هجين انتهى بإخصاع منظومة الشّرعيّة وإخراجها من الحكم عبر حوار وطني أفضى إلى مقايضة الدّستور بالخروج من الحكم، مقايضة مغالبة انتصرت فيها الثّورة بقطع الطّريق على خيار الانقلاب والاحتراب الأهلي والمصادقة على دستور لم يكن مجرّد وثيقة بل مخطّطا يهندس منظومة الحكم الجديد والمبادئ التي يقوم عليها الانتظام الاجتماعي والحياة السياسيّة الجديدة.
خسرت منظومة أكتوبر 2011 الحكومة ولم تخسر الحكم بفضل بقائها طرفا مؤثّرا في المشهد السياسي، زادت وتيرة الإرهاب، وكلّما زادت وتبرته ازدادت معه حملات الترذيل والتّجييش والاستنفار والتّعبئة ضدّ منظومة أكتوبر 2011 في التقاء موضوعيّ لافت بين الإرهاب وتحالف جبهة الانقاذ الذي جعل عنوان برنامجه استئصال الخصم السياسيّ التقليدي الذي كان يشكّل العمود الفقري لمنظومة الشرعيّة.
واجهت النّهضة في بداية حكمها ضغطا بين دعاة الثّوريّة ودعاة الإصلاح لكنّ الضّغط الأكبر الذي واجهته هو ضغط الاحتجاجات الاجتماعيّة المسيّسة والمنظومة الإعلاميّة القديمة لإرباكها وشلّ فاعليّتها وقدرتها على الحكم وتدمير صورتها الرمزيّة أمام عموم أفراد الشّعب، كانت بين خيارين لا ثالث لهما، إمّا مواجهة دمويّة لتحالف الإنقاذ المشكّل من تحالف واسع بين خصومها الأيديولوجيين وممثّلي المنظومة القديمة يؤدّي إلى تضييع فرصة الدّستور على الثورة التّونسيّة وعودة الاستبداد وتحالفاته الهجينة أو الانحناء لتقديم تنازلات لصالح إنهاء المسار الدّستوري وتتويجه بالمصادقة على الدّستور.
كان لقاء باريس تسوية سياسيّة أنقذت الدّستور ولكن أعطت شرعيّة سياسيّة وقانونيّة لعودة المنظومة القديمة من باب الحوار بعد أن عادت من باب المغالبة عبر تحالف جبهة الإنقاذ، كسبت المنظومة القديمة شرعيّة جديدة وكسبت الثّورة دستورا لمنظومة جديدة، وضع لافت في السوسيولوجيّا السياسيّة أنتج صراع نفوذ بين القديم والجديد رغم عبارات الودّ والمجاملات والشّراكة.
لم تمكّن انتخابات 2014 القديم من الهامش الذي يسمح له بالانفراد بالحكم، وكانت حاجته لشريك يتّكئ عليه أمرا أساسيّا، شراكة سمحت للقديم بممارسة السّلطة ولكنّها لم تسمح له بإيقاف مسار الثّورة رغم كلّ محاولات الاشتباك والمناورة والالتفاف، تواصل مسار بناء منظومة الحكم الجديد التي أقرّها الدّستور عبر الهيئات الدّستوريّة والقوانين التي تحصّن منظومة الثّورة، كما سمح هذا الوضع بالكشف عن هشاشة المنظومة القديمة وفشلها في الالتقاء على رؤية موحّدة وإطار جامع بل تفرّفت شذر مذر في صراع محموم لأصحاب مصالح ونفوذ ونرجسيات وإرادات داخليّة وخارجيّة، بينما بقي الشّريك موحّدا يواجه بشجاعة تبعات المسار الذي اختاره منذ إسقاط قانون تحصين الثّورة وفانون السنّ الأقصى للترشّح.
حصيلة صراع القديم والجديد المعلن والخفيّ في ظلّ شراكة الواجهة أنّ ما افتكّه القديم عنوة من منظومة الثّورة هيّن وجزئيّ مقابل ما حقّقته الثّورة من تواصل حثيث لمسارها رغم كلّ التعثّرات ومحاولات الإجهاض أو التمييع أو تحويل الوجهة، تواصل اشتغال القديم بنفس السياسات القديمة من تعيينات على سبيل المكافأة للحفاظ على أنصاره ليكونوا رصيدا له في الاستحقاقات الانتخابيّة، كما فرض قانونا للمصالحة وقع إفراغه من شموليته ليمرّ عكس ما أريد له حيث اقتصر على فئة محدودة من الموظّفين مارست فسادا لم تحقّق به نفعا لصالحها…، بينما غنمت الثّورة المجلس الأعلى للقضاء والهيئة المستقلّة للانتخابات والمصادقة على قانون النفاذ إلى المعلومة وتشكيل هيئات دستوريّة معتبرة وحماية مسار العدالة الانتقاليّة رغم ما استهدفه من أخطار… في انتظار المحكمة الدّستوريّة والهيئات الدّائمة للإعلام وحقوق الإنسان والحوكمة الرّشيدة لمكافحة الفساد.
هي ثورة ذكيّة تخترق جسم المنظومة القديمة وتتوغّل فيه بعمق وإن سمحت لها بهامش من الحركة الاستعراضيّة والمحافظة على جزء من مصالحها، لكن تواصل مسار الثّورة بنفس النّسق والصّبر والثّبات والذّكاء سيفضي حتما إلى بناء منظومة الثورة التي نصّ عليها الدّستور مكتملة الأركان والبنيان، ولن يحصل ذلك دون استقرار سياسي وتوافقات وطنيّة تفتح الباب لمعالجة قضايا التنمية وتحقيق العدالة الاجتماعيّة.
هذا هو السّياق السّوسيوسياسي الذي تتنزّل فيه الانتخابات الرّئاسيّة 2019 رغم كلّ أصوات الاستئصال الخافتة وأصوات الثوريّة الصّاخبة، الثّورة الذكيّة رهان وطنيّ لمواصلة هذا المسار بنسق أسرع يسابق الزّمان لتحقيق المطلب الشّعبي الملحّ كرامة العيش التي لا تنفصل فيها الحريّة عن الخبز.