أبو يعرب المرزوقي
لا أعتبر فائدة المناظرة بين المترشحين أساسية لتعيير المشاركين فيها بل هي عندي أساسية لتعيير معييريهم أو بالأحرى تعييرهم. ومعنى ذلك أنها كانت مناسبة لمعرفة معايير التعيير لدى من علقوا على المتناظرين شخصهم ومواقفهم وحيازتهم لما يجعلهم أجدر من غيرهم بالدور المنتظر منهم.
من الطبيعي أن تكون هذه المعايير أكثر دلالة على صاحب التعيير منها على الشخص المعير بها.
ومن ثم فالمناظرات كانت مناسبة استسنحها لتصنيف المعايير عند الذين يقيمون المرشحين أكثر منها مناسبة لتقييم المترشحين أو مناسبة لتعيين من سيكون منهم أجدر بوظيفة الرئيس إذا ما تم اختياره من غالبية الشعب.
ما أقدمه هنا هو صورة للطيف التقييمي الذي من المفروض أن يتوزع عليه أصحاب التقييم أكثر منه لمناسبة المترشحين لما يترشحون له.
ويمكن أن أعير هذه المعايير التي تداولها المشاركون في التواصل الاجتماعي في ضوء المتغيرات التالية التي من المفروض أن تحكم كل تعيير يراد له أن يكون علميا وموضوعيا لأن التعيير الذي ليس له محددات موضوعية يكون تعبيرا عن أحوال نفسه صاحبه وليس عن صفات موضوعية للشيء الذي يراد تعييره:
1. المهمة التي يترشح لها:
وهي مهمة يحددها الدستور بوضوح حتى وإن كان لها مستويان مباشر وغير مباشر أعني تعيين عناصر ولايته ثم تعيين ما يمكن أن يساعد على أداء دورها العلاجي والوقائي في مجال تخصصها الدستوري.
2. تكوين المترشح العام:
وتحددها ثقافة الجماعة التي تتردد في بلادنا بين ثقافتين فرنسية وعربية أو عربية وفرنسية بتقديم وتأخير لهذه العاملين. وواضح أن هذا المعيار جوهري لأن الخيارات السياسية هي بالأساس ثمرة رؤية ثقافية معينة ذات صلة بالمعرفة وبالقيم أي بما يعتبره الإنسان شرطا في سلطانه وغاية لوجوده.
3. خصائص شخصية المترشح القيادية:
وتحددها ثقافة الجماعة في رؤيته للسلطة السياسية بحسب العاملين السابقين والارث التاريخي والتأثر بما يجري في الغرب وهي إذن بنت الرؤية الثقافية والمصلحة الاقتصادية ودور السياسي فيهما في نظرية الدولة الحاضنة خاصة وهي من أكبر عوائق التقدم في مجتمعاتنا.
4. القوة السياسية والقاعدة الشعبية التي يمثلها المترشح:
وهذه ذات صلة بتاريخ القوى السياسية التي لها صلة بتحصيل العوامل الثلاثة السابقة لأن الوضعية الحالية تحددت بعلاقة ما تقدم على الثورة بما تلاها.
5. ظرف التنافس المحلي والإقليمي والدولي:
وهذا العامل ما كان ليكون ذا أثر لو لم يكن الرهان ليس تونسيا فحسب بل هو رهان يتجاوزها بسبب علاقة الإشكال بالإسلام السياسي الذي صار وإن سلبا عند المنتسبين إلى الثورة المضادة وحماتها العامل المحدد لكل ما يجري في الاقليم. لكنه عند الشعوب وخاصة بالنسبة إلى مستقبلها يمثل العامل الإيجابي الوحيد الذي يمكن أن يكون مناسبا لشروط السيادة التي لم تعد تعتمد على القطريات في العالم كله بل على المجموعات الكبرى الذي لها القدرة على التنافس العالمي وتحقيق شروط السيادة المادية والروحية.
لكني ألاحظ إذا اعتبرنا ما يوجد في التواصل الاجتماعي شبيها بما يحصل في العينيات المتحررة من التواطؤ (أت رندوم) أمكن أن أقول إن هذه المعايير الخمسة ليست هي التي حددت تعيير الشعب التونسي بل ما حددها هو إما الاسقاط النفسي لأصحاب التقييم والتعيير أو الخيارات الإيديولوجية أو خاصة عامل آخر يشمل كل العوامل الذي ذكرتها وهو حصيلتها: إنه صدفة اجتماع أولئك المترشحين في ساحة التنافس. فالتحديد الإضافي يتعين دائما بحسب صدفة تعين المشاركين في التنافس. وهذا العامل هو المحدد النهائي. وهو ينقسم إلى عاملين بسبب وجود قوتين حقيقيتين في المعترك والبقية مما يمكن أن يشوش عليهما دون أن يكون له تأثير ذاتي لصالحه بل هو سيكون لصالح أحد طرفي التنافس أي:
- لصالح من شرط بقائه هو عودة النظام القديم وهذا هو صف السيستام السابق على الثورة.
- أو لصالح من شرط بقائه هو ذهاب النظام القديم وهذا هو صف من السيستام بني على نفي حقه في الوجود أي الإسلاميين.
ومن ثم فالجميع يعتبر المعركة مرة أخرى مع الإسلاميين سواء كان ذلك إما بنفي حقهم في الوجود بإطلاق (النظام القديم) أو بنفيه نسبيا بمعنى القبول بهم كمصوتين وليس كمرشحين (أدعياء الثورية ومتهمي النهضة بأنها متواطئة مع النظام القديم الذي ينفي حقها في الوجود أصلا).
لذلك فأدعياء الثورة والعلمانية يشاركون النظام القديم نفس الإيديولوجيا التي يظنوها حداثة وما بالحداثة لأنها الحداثة التابعة. وهم بكل المعايير دون الإسلاميين حداثة إذا كان القصد بها حيازة قيم الحداثة السامية وأدواتها العلمية والتقنية والسياسية ثم إن الإسلاميين أقرب إلى مستقبل الإنسانية المعتمدة على تجاوز القطرية بحثا عن شروط السيادة القادرة والخروج مما يجعل الجماعة متسولة ومن ثم تابعة بنيويا. فأوروبا التي أنشأت مفهوم الدولة الوطنية تجاوزته إلى ما يحقق شروط السيادة بعد أن صارت بحجم يحول دونها وشروط التنافس مع عماليق العصر. فكيف بأقطار ميزانيتها دون كلفة حاملة طائرات أمريكية تقبل أن تسمى دولا ذات سيادة وهي متسولة في الرعاية والحماية.
وخلاصة القول إذا سلمنا بأن التواصل الاجتماعي عينة ممثلة مما يدور في أذهان التونسي فإن أقضي بأن تونس لم تنضج بعد لثورة فعلية بل هي في الحقيقة صارت ثقافيا فاقدة للقدرة على تحمل تبعات ما ترفعه من شعارات الحرية والكرامة: فما يمثله من يخلط بين العنتريات والسياسة لا يمكن الا يكون كذابا على نفسه وعلى الشعب. وفي هذه الحالة فعندي أن التابعين للنظام القديم أكثر صدقا من أدعياء الثورة والحرية والكرامة ومحاربة العمود الفقري لشرط الصمود في كل حرب وخاصة حرب التحرر والتحرير التي هي جوهر الثورة: فكما حدد ذلك كلاوسفيتز في نظرية الحرب، الأمم تهزم عندما تفقد الصمود الروحي.
وذلك عينه من يحاربه سخفاء الثورية الذين يتكلمون على الدولة المدنية في ما هو بالجوهر حاليا مجرد محمية استعمارية ثقافيا واقتصاديا وسياسيا وهم محاول إلغاء خط الدفاع الاخير أي البعد الروحي من ثقافة الجماعة. لم أر في حياتي أسخف من هؤلاء الحمقى الذين يتصورون الحداثة الغربية هي ثقافة الاستعمار الغربي وليس الثقافة التي بنت الغرب أي التجديد الديني والفلسفي والعلمي والتقني والسياسي والاجتماعي شروطا للإبداع وعدم التبعية.