علي المسعودي
وهم قرطاج
أكبر منجز لهذه الثورة هو كتابة دستور، وأكبر منجز في فصول الدستور هو قتل الرئيس، كحاكم مطلق بيده الأمر والنهي، وفي قوله الحل والعقد.
من هذه الزاوية، لا يعدّ المشهد الحالي أكثر من مزايدة ديموقراطية وفضول من الفعل. فالرئيس اليوم لا يحتاج انتخابات أو مناظرات. يكفيه ورقة اعتماد من قصر باردو. وهل احتاجت ملكة بريطانيا يوما إلى حبر انتخابي ؟!!.
لم تعد هضبة قرطاج تعني شيئا أكثر من آثارها الدارسة، حتى وإن ارتفع فوقها قصر عامر بأهله وتحرسه الجيوش. المارّ بجوارها سيقول حتما: هنا دفن الدستور الحاكم الشمولي، وهنا يسكن وكيل لزاوية برتبة رئيس.
قصر قرطاج اليوم هو أعلى قليلا من قصر بيكنغهام، والرئيس القادم بحكم القانون هو اليزابيت الثانية في صيغة المذكر. فهو لا يستطيع تناول الأمن القومي كما حدده الدستور دون الرجوع إلى قصري باردو والقصبة. والذين يتحدّثون عن الأمن الشامل يكذبون على الشعب وعلى فصول القانون، أو يستعدّون للسطو على الحكم إن امتلكوا يوما أدوات الخلع والكسر.
إن تجربة الباجي قايد السبسي تؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأن الحكم الفعلي انتقل إلى القصبة وكالة عن قصر البايات، وأن الرئيس هو مثل جنرال قديم، تمّ تجريده من الأوسمة والنياشين، ومازال يتصرّف مثل الجنرال وهو برتبة جندي مراسيم !..
ولكن الرئاسة ماتت وبقي وهم وجودها حاضرا في أذهان الخاصة قبل العامة، والمترشحين قبل الناخبين !!. وانبرى بعضهم يتحدّث عن سلطاته المفترضة في إطعام الجياع وإكساء العباد، وفي بناء الجسور وتنظيم حركة المرور.. وكل ذلك من باب الأمن القومي !!.
وهم معركة الفساد
جوهر المسار الانتخابي هو التالي: إذا كنت فاسدا فحارب الفساد بلا هوادة حتى لا يبقى أحد يزيد على بطانتك من الفاسدين، وإذا كنت نظيف اليد، فعليك أن تنال تطويبا من أباطرته، وتزكية ضمنية من سدنته ثم اترك العنان للفظك يحارب الطواحين.
هذه الحرب الموهومة على الفساد هي صورة من صور مناعته وبراعته في التخفّي والتمويه.
كل هذا الغبار الذي يثيره خطاب السادة المترشحين هو غبار معركة كاذبة، لغاية التسويق. فالفساد يكاد يكون هو المنتج والمخرج والممثل في هذا الفلم الانتخابي مع استدراك بسيط.
أما الذين يحملون لواء المعركة الحقيقية، فقلوبهم شتّى، وسيوفهم قُدَّت من خشب، وسيعودون براية الهزيمة ممزّقة، وبأحلام ماتت إلى الأبد.
وهم الايمان بالمشترك القيمي
اصطفاف المترشحين وقوفا في حضرة السلطة الرابعة الجالسة هي صورة مبهرة بلا شك. قد يكون المشهد أقرب إلى التناظر منه إلى المناظرة، ولكنه مشهد فريد فرادة الواحات في صحراء قاحلة. مشهد يدين الواقع العربي ويقيم الحجة على أن حراك السابع عشر من ديسمبر هو حقيقة وليس وهما، وأنه ترك بصمة وبعضا من أثر.
أما عن تفاصيل الصورة، فهنا تكمن المفارقة.
كم من المترشحين يؤمن ايمانا ليس كاذبا بالقيم الديموقراطية التي يستبطنها هذا المشهد ؟
ألم يجاهر بعضهم بميوله الانقلابية ؟
ألم يصادق بعضهم أنظمة مستبدّة، ودموية ؟
ألم يهدد البعض البعض الآخر بالسجون من أجل خصومة سياسية ؟
ألم يحنّ البعض إلى رئاسوية تعيدنا إلى حقبة الاستبداد بكل مآسيها ؟
الصورة معبّرة وجميلة بلا شك، ولكن روائح النوايا العفنة تكاد تزكم الأنوف.
الرسّام مبدع بلا شك، ولكن الوجه المرسوم، هو قاتله في نفس الوقت !